بين «الاستكراس» والإفلاس

TT

القيادي اللبناني الراحل، كمال جنبلاط، كان يسميه في ستينات القرن الماضي مرض «الاستكراس»، وينعته بالمزمن، في وصفه لتهافت السياسيين اللبنانيين على تسلق الكرسي الوزاري بأي ثمن كان.

أما في القرن الحادي والعشرين فيبدو أن مرض «الاستكراس» تفاقم بحدة على خلفية الإفلاس المناقبي الذي يعاني منه الوسط السياسي في لبنان (وفي هذا السياق يكفي التذكير بمسلسل التبادل العلني لتهم الفساد واستغلال السلطة بين وزيرين في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي المستقيلة للتدليل على أن استغلال السلطة أصبح جزءا عضويا من المؤسسة السياسية في لبنان).

سواء صعد هذا الأسبوع «الدخان الأبيض» من مطبخ تشكيل الحكومة اللبنانية الموعودة أم لم يصعد، لم يعد يليق بلبنان - نظاما وشعبا - أن يهدر عملية دستورية عادية كتبادل السلطة على المستوى الوزاري، عشرة أشهر من وقته وطاقاته.. وسمعته.

عشرة أشهر عجاف انقضت على تكليف النائب تمام سلام تشكيل الحكومة اللبنانية العتيدة دون أن تدخل جديدا على نظرة معظم السياسيين اللبنانيين إلى المرحلة الدقيقة التي يمر بها الشرق الأوسط برمته، ولبنان يشكل خاص.

عشرة أشهر شهدت، بين ما شهدته، سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر وتفاهما إيرانيا - دوليا على سقف برنامج طهران النووي، والتقاء ممثلي النظام والمعارضة السورية في جنيف وجها لوجه، وأخيرا لا آخرا، تفاهم الإسلاميون والعلمانيون في تونس على دستور «لا يقتل الذئب ولا يفني الغنم».. عشرة أشهر حافلة بتحولات جذرية لم تكن كافية للفت انتباه السياسيين التقليديين في لبنان إلى أن أوضاع الشرق الأوسط تتغير بوتيرة متسارعة لا يجوز أن يبقوا غافلين عن تداعياتها السياسية والاستراتيجبة على بلدهم.

ربما جاز إيجاد عذر للتقليديين من ساسة لبنان لتغاضيهم عن أبعاد التغييرات الإقليمية على بلدهم. ولكن لا عذر لهم في تجاهل التحولات الاجتماعية التي يفرزها التردي الاقتصادي في بلدهم: معدلات البطالة الواقعية تفوق الأرقام المتداولة عنها وتقلص فرص العمل في الداخل مع ازدياد الهجرة إلى الخارج يكادان يلغيان دور الطبقة الوسطى - المحرك الأساسي لاقتصاد لبنان - إن لم يكن وجودها بالكامل. وفي غضون ذلك، يتفاقم باستمرار عجز الخزينة المالي وتتراجع صادرات لبنان لتقتصر على «تصدير» الأدمغة والشباب وتتحول حركته السياحية إلى «سياحة» السيارات المفخخة.

والسؤال يبقى: أين النظام الديمقراطي اللبناني من كل ما يجري؟

قد يكون الهدف العملي للأنظمة الديمقراطية في العالم انتقاء الأفضل وإبراز الأقدر على تسلم مقدرات الحكم. ولكن حين يكون الجسم السياسي للبلد مصابا بحالة إفلاس معنوي ومناقبي، تصبح مقدرات الدولة رهينة تجاذبات الشارع وتناقضات المصالح الضيقة لسياسييها.. فلا غرابة أن تصبح المكاسب الانتخابية الضيقة - وما تستتبعه من منافع معروفة - العنوان العريض لمشاركة البعض في أي تشكيلة حكومية في لبنان، ويصبح التلويح بـ«الحقوق الطائفية» الوسيلة الدارجة لاقتناص كرسي الحكم.

ولكن إذا كان السياسيون التقليديون لا يجدون حرجا في أن تدور عملية تشكيل الحكومة في هذه الحلقة المفرغة ولبنان ينوء بحمل أثقال النزاع السوري، الأمنية منها والاجتماعية، فإن النظام الموصوف «بالديمقراطي التوافقي» يتحمل قسطا وافرا من مسؤولية ما يتعرض له لبنان من فراغ دستوري كلما حان «موسم» تبديل حكوماته.

لأن الاعتبارات «التوافقية» تطغى حاليا على آلية اللعبة «الديمقراطية» يعاني نظام الضوابط والتوازنات، على مستوى السلطتين التشريعية والتنفيذية، من خلل يستدعي إعادة نظر دستورية في صلاحيات السلطات التنفيذية تعيد إلى الموقع الرئاسي الأول (رئاسة الجمهورية) صلاحية تشكيل الحكومة بالتعاون والتشاور مع الرئيس المكلف تأليفها (بموجب استشارات نيابية ملزمة)، فتختصر على الأقل فترة المخاض التي تمر بها ولادات كل الحكومات اللبنانية.

رغم ما يوحيه هذا التعديل من ملامح نظام رئاسي فهو يحفظ للسلطة التشريعية، مجتمعة، صلاحية اتخاذ القرار النهائي بقبول التشكيلة الحكومية أو رفضها من خلال منحها ثقة الأكثرية البرلمانية أو حجبها عنها.

ولكن ما يجوز في دول العالم الديمقراطي لا يجوز في لبنان «التوافقي».. والأصح الطائفي.