نبوءة نفرتيه قبل 5000 سنة

TT

الصحافة الغربية وندوات الدوائر السياسية الغربية (ومعظمها اشترى بضاعة عرضها التنظيم الدولي للإخوان في فاترينة لا تتأكد من صلاحيتها للاستهلاك) فيها اتهام ضمني للشعب المصري بالغفلة.

الجسم السياسي الغربي من صحافة ومعاهد أبحاث ووزارات (خاصة الأنغلو - أميركي) أقنع نفسه بحبكة كوميدية لا يقدر على مضاهاتها إلا الصديق العزيز علي سالم في مسرحيات كالخبير (مصنع يوظف العمال في عنابر ينفخون فيها قربا مثقوبة)، أو كشخصية الزعيم الأفريقي كاباكا في مسرحية «بكالوريوس في حكم الشعوب» (سمح لمواطنيه بالسفر بلا تأشيرة خروج، فسافر الشعب كله ولم يعد)، أو في المسرحية نفسها شراء غواصات لبلد لا يطل على بحار.

من يحضر ندوات في معاهد أبحاث كان لها صيت ذات يوم (كتشاتام هاوس) أو أقامها نواب برلمان زاروا مصر ضيوفا على أثرياء الإخوان، معذور إذا اعتقد أن الشعب المصري نائم في بيوته وضحك الجيش عليه وتخلص من رئيس الإخوان محمد مرسي (مصرون على تسميته أول رئيس منتخب ديمقراطيا متناسين أن الجهاز الذي أدار انتخابه هو نفسه الذي نظم انتخابات حكومة الحزب الوطني قبل سنة واحدة؛ ولا يذكرون أن كل رؤساء حكومات مصر من 1922 إلى 1952 كانوا منتخبين ديمقراطيا، رغم توافر هذه المعلومات في مكتبة مجلس العموم، وأرشيفات المعاهد التي تقيم هذه الندوات).

قراء «الشرق الأوسط» النخبة يدركون العلاقة الفريدة من نوعها بين الأمة المصرية والجيش، ليس فقط كأهم أسس الدولة المثلثة (الفرعون أو رئيس الدولة؛ المعبد أو المؤسسة الدينية؛ والجيش) لما يزيد على سبعين قرنا، بل منذ أول ثورة مصرية مدونة تاريخيا قبل 4200 سنة والشعب ينتفض ويلجأ لحماية الجيش عندما تقسو أجهزة الأمن، كثورة أمنمحات الأول 1991 - 1962 قبل الميلاد، وكان قائدا للجيش انحاز للشعب في تمرده على أمنحوتب الرابع، وبعد إسقاط الحاكم الظالم اختار الشعب أمنمحات فأعاد إحياء القومية المصرية، وأسس الأسرة الثانية عشرة التي بدأت أعظم حضارة حسب توثيق باحثة التاريخ المصري القديم، الأستاذة عزة سليمان، في تقريرها الذي يقارن ثورة 30 يونيو (حزيران) 2013 بأحداث الثورة الأولى قبل 4200 سنة عندما خرج الشعب ضد ظلم الطبقة الحاكمة وبدأ المسحراتية (المنادون وهم في التاريخ القديم كالصحافة اليوم) في إحياء أنشودة كان عمرها 800 سنة وقتها عرفت بنبوءة نفرتيه (ظهرت في عهد الملك سنفرو 2613 - 2584 قبل الميلاد وهو والد الملك خوفو باني الهرم الأكبر)، ووعدت النبوءة المصريين بظهور قائد جيش عظيم يخلصهم من الظلم، وتجسدت في تحرك أمنمحات بالجيش لحماية الشعب.

ثم تكررت النبوءة بتحرك قائد الجيش أحمس (1560 - 1546 قبل الميلاد) لطرد الهكسوس بعد احتلال استيطاني دام 150 سنة انتهك فيه الهكسوس كرامة المصريين كمواطنين، واستعاد أحمس، من الأسرة الـ 26، استقلال مصر.

وبعد 3400 سنة استوعب محمد علي باشا الخصوصية المصرية، فأسس جيشا قويا أدى لبناء دولة حديثة، فمجتمع معاصر متقدم بالمستوى الحضاري للمجتمعات الأوروبية.

وعندما كبر وقوي النفوذ المصري في القرن التاسع عشر لدرجة ذهاب الجيش المصري إلى المكسيك؛ استهدفت دول الاستعمار الأوروبي الجيش أولا باتفاقية تقليص الجيش وتحديد القرارات المصرية، ثم مؤامرة احتلال مصر بتدبير أحداث مذبحة الإسكندرية في 1882، وضرب الأسطول البريطاني الإسكندرية باتفاق أنغلو - فرنسي لعرقلة تطوير النظام البرلماني الديمقراطي. فقد أدركت دول الاستعمار الأوروبي أن السيطرة على المنطقة لا تتم إلا بإضعاف مصر باستهداف جيشها.

وما لا تدركه مؤسسات الفكر الغربية والهواة من الصحافيين أن الشعب المصري يعي بفطرته أن هناك قوى عالمية وإقليمية تستهدف تقويض الجيش المصري دعامة الأمة وصمغ تماسكها.

تماسك مصر وسلامتها هما السد الذي يقف أمام طوفان إغراق المنطقة في حروب أهلية كليبيا والعراق وسوريا (مثلما كانت مصر السد الذي تفتتت عليه أمواج التتار وآخر الحملات الصليبية).

افتتاحيات الصحف الغربية والـ«بي بي سي» تخمن أن الجيش المصري يخطط ليصبح المشير عبد الفتاح السياسي رئيسا، رغم أن الجيش كمؤسسة وطنية يضمن تاريخيا ولاء الأمة، ولا حاجة له أصلا للتخطيط.

الاتجاهات الوطنية في مصر تضغط لترشيح السيسي للرئاسة كمحصلة عوامل ثقافية وسياسية تاريخية في النفسية الجماعية للأمة (collective psyche) تمثل الأغلبية بأكثر من 55 في المائة في أقل التقديرات (الديمقراطيات الكبرى المتعددة الأحزاب تنتخب حكومات بمتوسط 40 في المائة).

المواطن المصري يتوق للأمن والاستقرار من فوضى ثلاث سنوات (مهما كانت إيجابية الثورات على المدى الطويل فهي فوضى وخراب اقتصادي في السنوات الأولى). كما أن الضمير المصري اللاشعوري يحمل خبرة آلاف السنين لنبوءة نفرتيه وتحرك قائد الجيش أمنمحات في الثورة الأولى وأحمس بطرد الهكسوس، واستعادة هوية مصر من قوى غير وطنية استهدفت الهوية المصرية نفسها (سبب رئيسي لإسقاط المصريين للإخوان)، ويرى المواطن المصري البسيط في شخصية المشير السيسي مزيجا بين أمنمحات وأحمس، ليس فقط كحام للهوية القومية من جماعة «طز في مصر»، بل يرونه قائدا وطنيا (استوعب درس التاريخ بأن الجيش لا يحمي الحدود فقط، بل يحمي الهوية المصرية وتراث الأمة وسلامة الشعب من العدوين الخارجي والداخلي)، وهو موضع إعجاب أصدقاء مصر، وهم يعون بالمخطط الغربي (سواء كان استراتيجية مقصودة أم سوء تقدير مبني على تحليل خاطئ) لفرض الإسلام السياسي وجماعة الإخوان كحصان طروادة في الحصن المصري بدعوات التسامح والمشاركة.

وفي وقت تنقسم فيه التيارات المصرية، بين أغلبية تؤكد على الهوية المصرية وأقلية لا تزال تراهن على الإخوان والسلفيين، وشباب تيارات اختلط عليهم الأمر، فإن هناك شبه إجماع قومي (national consensus) جعل من المشير السيسي شخصية توافقية تتوحد الصفوف على اختيارها، بينما تنشق وتختلف حول أي شخصية أخرى في الظروف الحالية.

ومثلما كررنا في هذا المنبر، لم يكن محمد علي باشا أو كمال أتاتورك ديمقراطيا أو ليبراليا، لكن كليهما استخدم المؤسسة العسكرية لتثبيت وتأسيس حكم القانون والأمن وكسب حب وتقدير الشعب، وكليهما بنى نهضة حضارية ودولة حديثة تمخضت عنها ديمقراطية برلمانية. ومع تقدم وسائل الاتصال، وقدرة الشعوب على التعبير بعد قرنين من نهضة محمد علي، و80 سنة من أتاتورك، فإن المعدل الزمني لاستعادة الديمقراطية البرلمانية في مصر اليوم سيكون أفضل.