التفاوض ليس للتفاوض

TT

انتهت يوم الجمعة الماضي مفاوضات «جنيف 2» السوري إلى لا شيء تقريبا، وهو ما كان متوقعا. وبعد أن كان الهدف إنهاء نظام الأسد دخلت على المشهد تفاصيل أخرى؛ لقد صار فك الحصار عن المدن والمخيمات هدفا، وصار الإرهاب جدلا، والإغاثة الإنسانية غاية، ورحيل بشار الأسد وتشكيل هيئة انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة رفض وفد النظام مناقشتها، وهو غير قادر على ذلك وغير مضطر له، فهو لم يزل الأقوى على الأرض وهو لا يشعر بأي نوع من الضغوط التي تجعله يفكر في تقديم أي تنازلات، فضلا عن أن يتنحى من الحكم ويترك السلطة.

احتفى البعض بما جرى في «جنيف 2» ورأى أنه قدم إنجازا لمجرد جمعه فريقي النظام والمعارضة في غرفة واحدة، وهو إنجاز بلا معنى وبلا نتيجة ملموسة على الأرض، ورغم محاولات المبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي في مؤتمره الصحافي بعد انتهاء الجولة الأولى من المفاوضات أن يجد شيئا يمكنه أن يعده إنجازا فإنه لم يفلح في ذلك، وعبر عن ضآلة المنجز بعبارات دبلوماسية باردة، وهو أمل أن تكون هذه الجولة قاعدة تنطلق منها وتبنى عليها الجولات المقبلة، ولكن أي شيء لا يمكن بناؤه على «لا شيء».

في البدء كان الصراع، في تواريخ الأمم والدول والشعوب والأفراد، والتفاوض هو مرحلة أكثر عقلانية لإدارة الصراعات من قوة السلاح، وهي مرحلة لا يجري فيها إلغاء هذه القوة، بل محاولة تحويلها من قوة دموية عنيفة إلى حسابات الأرباح والخسائر السياسية، وبدلا من الميدان وأرض الواقع تحضر الطاولة، ولكن شروط التفاوض على الطاولة تفرضها القوة على الأرض.

قوة التحالفات السياسية الدولية والإقليمية تدخل بقوة كعناصر مؤثرة على طاولة المفاوضات، والمشكلة في «جنيف 2» أن حلفاء النظام السوري الدوليين والإقليميين يمنحونه الدعم الكامل ميدانيا بالسلاح والرجال والتدريب والمشاركة في القتال، وسياسيا في كل المحافل الدولية، بينما تجد المعارضة كل الدعم من حلفائها الإقليميين، ولكن التخاذل في الحلفاء الدوليين المفترضين من الولايات المتحدة والدول الغربية.

إقليميا، باتت المملكة العربية السعودية تقود الموقف المدافع عن حقوق الدول والشعوب العربية، ومعها غالبية دول الخليج العربي في معظم الأحيان، وهي تواجه حملة شرسة تقودها الجمهورية الإسلامية في إيران لبسط الهيمنة والنفوذ على العالم العربي، وتعد سوريا إحدى أهم نقاط هذه المواجهة المتشعبة على كل المستويات.

تساقطت الشعارات التي كانت تستخدمها إيران واحدا تلو الآخر فقد أصبحت «الممانعة» أضحوكة وخديعة وتجلت «المقاومة» عن عنف طائفي دام ومقيت، و«الشيطان الأكبر»، كما هو شعار ملالي إيران الأكبر منذ ما يسمى بالثورة الإسلامية في إيران ويقصد به الولايات المتحدة الأميركية، قد أصبح «الشيطان الأصغر» الذي يجري التفاوض معه والتقرب منه وليس لدى إيران من مانع من جعله «الملاك» فيما لو استطاعت خديعته وأخذ ما تريد منه.

لتوضيح هذا الجانب الذي يوضح عداء إيران للسعودية ودول الخليج العربي والدول العربية ما نشرته الخميس الماضي صحيفة «الرأي» الكويتية من تصريحات للسفير الأميركي السابق فرد هوف، وهو بحسب الصحيفة «أحد أكثر الخبراء المثيرين للاهتمام في واشنطن والذي سبق أن عمل، حتى الأمس القريب، مسؤولا للملف السوري في وزارة الخارجية، وشارك في صياغة وثيقة (جنيف 1)»، قال هوف: «من المفيد القول أيضا إن محدثينا الإيرانيين أجمعوا على أن العدو الحقيقي هو المملكة العربية السعودية، داخل سوريا وخارجها.. أحدهم قال إن المملكة تزداد أهميتها يوما بعد يوم في حسابات إيران، وقال إنه قلق من عواقب الحرب الطائفية والأهلية في سوريا، وذهب إلى حد القول إن للولايات المتحدة وإيران مصلحة مشتركة في احتواء الحرب الطائفية في المنطقة وفي إلحاق الهزيمة بالتحدي السعودي للولايات المتحدة». كما أن إيرانيا آخر قال لهوف إنه «لا يرى أن أميركا أو إسرائيل فعلت أي شيء في سوريا، وكل المشكلة تكمن في السعودية، وإلى حد أقل تركيا».

هذه التصريحات التي سمعها هوف من سياسيين إيرانيين هي شاهد جديد على الحرب التي تديرها إيران ضد السعودية والدول والشعوب العربية، وهي استطاعت استقطاب الكثير من المثقفين والكتاب القوميين والإسلامويين لصفها، واستطاعت توظيف جماعات العنف الديني السنية كتنظيم القاعدة وتنظيم داعش وتنظيم النصرة لخدمة أهدافها وأهداف نظام بشار الأسد في سوريا.

استخدمت إيران الطائفية سلاحا سياسيا في المنطقة، وهو ما كانت تحذر منه السعودية، وحين كانت إيران منكبة على دعم تنظيم القاعدة وإرهابه في العراق واليمن والسعودية وإيواء قياداته وحماية عناصره كانت السعودية تحاربه بكل إمكانياتها في السعودية وفي كل مكان تستطيع التأثير فيه، وساهمت في حماية عدد من دول العالم من عملياته وجرائمه، واليوم حين بدأت إيران تشعر أنها عاجزة عن احتواء الإرهاب السني الذي خرج من رحم الطائفية التي أثارتها بدأت برمي تهم الطائفية على السعودية.

هذه الحرب الطائفية التي تقودها إيران منذ سنوات تتبدى جلية في الكثير من مقاطع الفيديو التي تنشر على موقع «يوتيوب» والإنترنت بشكل عام، يتحدث فيها مسلحون طائفيون بعبارات موغلة في الطائفية من نحو «قتل السنة فردا فردا»، وهي عبارات تصعيدية في نبرتها وموغلة في طائفيتها، وهي نتيجة طبيعية للاستراتيجية التي تتبعها إيران في المنطقة.

لكل فعل ردة فعل، فالإرهاب الطائفي الذي تقوده إيران أنتج إرهابا طائفيا مضادا، وسيدير بوصلة بعض جماعات وتنظيمات الإرهاب السني غير المرتبطة تنظيميا بإيران إلى نحرها.

ربما يجد البعض صعوبة في فهم علاقة إيران كدولة شيعية بتنظيمات إرهابية سنية، ويمنعهم من ذلك أمران؛ الأول: الجهل بتفاصيل هذه العلاقة. والثاني: العجز عن قراءة الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة، غير أن أمرا قد يفيد في هذا السياق ألا وهو معرفة العدو، بمعنى أن عدو إيران وعدو تنظيمات القاعدة وداعش والنصرة هو السعودية، وكم هي كثيرة ومتعددة مقاطع الفيديو في الـ«يوتيوب» والإنترنت، تلك التي يتعهد فيها عناصر تلك التنظيمات الإرهابية الدولة السعودية بأنهم سيعودون لقتالها ومحاربتها.

أخيرا، فإن التفاوض وسيلة وليس غاية بحد ذاته، وهو ترجمة لتوازنات القوة، دوليا وإقليميا ومحليا، وما لم تختلف تلك التوازنات فإن شيئا مهما لن يحدث.

[email protected]