تخيل الضد يوجده.. الآخر في مخيال السلطة العربية

TT

يتسم المخيال العربي بخصوبته في تخيل الأنا والآخر. فمخيالنا عن المرأة هو مخيال خصب طالما تحدثت عنه الكثير من الكتابات النسوية، كما أن تخيلنا عن المختلف الإثني، قبليا أو دينيا أو عرقيا، هو الآخر لا يقل خصوبة عن خيالنا عن المرأة. وخيالنا عن العدو يدفعنا دائما إلى البحث عنه. فهو قد يأتي من الخارج وفي هذا قد يكون غربيا، وتحديدا بريطانيا أو فرنسيا، وقد يكون أميركيا. وهو الآن قد أصبح عند البعض روسيا أو إيرانيا أو تركيا. وقد تشمل «فوراتنا» الانفعالية أحيانا الصين والهند. وطالما دفعنا خيالنا نحو مجموعة من الإجراءات التي تقود إلى عداوات تثير الآخر وتحفزه نحو خطوات مضادة أو أكثر. وقد نندفع بعد «فتور» الانفعال إلى طلب وساطات وتنازلات لإعادة - كما يقولون - المياه إلى مجاريها. وفي كل الأحوال، عندما يقع العطب فإن عودة المياه لا تعني بالضرورة عودة الثقة التي تحتاج لجهد وسنين لا يبدوان أنهما ضمن أفق مؤسساتنا السياسية. فالفرق بيننا وبين الآخر هو في تشكل الدولة في فعلهم السياسي، في حين تبدو الشخصانية والانفعالية واضحة في فعلنا السياسي. فمخيالنا يحمل الكثير من المواقف السلبية من الآخر الأوروبي أو الأميركي أو الإقليمي، وهي مواقف تقودنا أكثر نحو معاداة الضد من أن تكون مواقفنا أكثر عقلانية قائمة ليس فقط على حساب المصالح وإنما الجغرافيا والاستراتيجية أيضا. إلا أن المشكل يبدو مضاعفا عندما يكون الضد المتخيل في الداخل. فداخلنا العربي مليء بقوى وجماعات، وبفعل اختلافها فإنها مهيأة لأن تحتل في مخيالنا مكان الضد. فالسلطة العربية هي سلطة قائمة على انغلاق الجماعة الماسكة بها في مواجهة الجماعات الأخرى. والمحافظة على أمنها يدفعها نحو تخيل هذا الضد في جماعة سياسية أو إثنية أو قبلية أو دينية أو مذهبية. وهي في المختلف قد تؤدي لنزوعها نحو المحافظة على مكتسباتها بمواجهة الآخر المختلف. فالآخر المختلف قد يكون جماعة سياسية وقد يكون جماعة قبلية وقد يكون جماعة دينية أو جماعة مذهبية. فهي في هذا توظف الخطاب الذي يساهم في محافظتها على تركيب القوة القائم من ناحية، ويخلق قدرا من التساند، إما أن يكون هذا التعاضد قائما على أساس آيديولوجي أو قبلي أو ديني أو مذهبي.. في مواجهة الآخر، من الناحية الأخرى. وهي في هذا تلجأ إلى مجموعة من الإجراءات والممارسات الثقافية والإدارية المضيقة على المختلف من حيث الرزق والفرص ولربما الحياة الكريمة، وهي ممارسات تدفع نحو أن يتشكل في أوساطها قدر من المناهضة ولربما التحدي للسلطات القائمة، وهي ممارسات تحولها من جماعة مكونة من أفراد قد تتباين ولربما تتعارض رؤاهم ومواقفهم السياسية والثقافية، إلى كتلة إثنية ذات أجندة سياسية، ترى السلطات في كل ما يأتي منها أنه سلوك معارض.

وقد عانت الدولة العربية، بفعل قصور تطورها المؤسساتي، وتشكل قدر قد يكون أحيانا كبيرا من الفئوية في أوساطها، من إشكالية في العلاقة مع المختلف في الداخل، والذي نظر إليه دائما على أنه ضد مؤسسة الدولة. فمثلا، نظرت الدولة العربية دائما في العراق وسوريا إلى الأكراد من مواطنيها بنوع من الشك الدائم في ولائهم للدولة، وهم نتيجة لاختلافهم الإثني (القومي) مع الأحزاب القومية الحاكمة في هذه الدول، فإنهم كجماعة إثنية باتوا في ذلك يمتلكون كل مؤهلات تشكيل جماعة الضد في مخيال السلطات العربية الحاكمة في هذه الدول. وهو موقف قاد بفعل الإجراءات الحكومية ضدها إلى أن تشكل جماعة الضد. فقد عانى الأكراد في هذه الدول نوعا من التهميش السياسي والثقافي والاجتماعي، بل إن مطالباتهم بنوع من العدالة الاجتماعية والاستقلالية الثقافية قد قادت إلى اتهامهم بنسج صلات تآمرية تارة مع الدولة الإسرائيلية وتارة أخرى مع الغرب والولايات المتحدة الأميركية وإيران وتركيا، بل إن نضالهم من أجل مجتمع أكثر عدالة وديمقراطية في العراق وسوريا، قد قاد السلطات هناك إلى تبني نوع من سياسات «التطهير العرقي»، بل إن السلطات السورية قد عمدت نحو تطويق المناطق الكردية بحزام جديد من بدو الشام. ولم تعد السلطات السورية أكراد سوريا مواطنين كاملي الحقوق كالمواطنين العرب من السوريين، إذ إن 20 في المائة من أكراد سوريا تم تجريدهم من الجنسية السورية بعد الاحتجاجات التي اجتاحت مناطقهم في قامشلي وبعد ذلك في الحسكة في منتصف العقد الماضي. والملاحظ أنه لم يكن لأكراد العراق وسوريا أي مشكلة مع الأنظمة التي جاءت إلى حكم البلدين تحت مظلة الدولة الإسلامية وانتهاء بالدولة العثمانية، بل إن مشكلتهم قد تعقدت كثيرا بعيد الحرب العالمية الثانية وبناء الدولة القومية. وهي دولة رغم حداثة أطرها الخارجية، ولنقل في مسماها، لكنها دولة قد حكمت دائما بنزعات تقليدية أصبحت مع التحولات التي جاءت على المنطقة العربية خلال السنوات الماضية نزعات عابرة للحدود ومطيحة بعصب الدولة التي أقيمت وفقها.. أي أنه بخلاف الفكر الخلدوني فإن العصبية التي تشكلت وفقها الدولة الحديثة في المنطقة العربية وبفعل مقاومتها لأي شكل من أشكال التكيف مع متطلبات التغيير المعولمة والجديدة، سرعان ما تكون سببا في الإطاحة بها. وهي ممارسات قد دفعت إلى أن يكون الأكراد أكثر القوى المناهضة لأنظمة الحكم في هذين البلدين.

وهي حالة قد انسحبت على الموقف من أقباط مصر منذ الخمسينات حتى الآن. ففي الوقت الذي لم تميز فيه الملكية المصرية ضدهم، بل إن شخصية سياسية مثل مكرم عبيد الذي تقلد العديد من المناصب الوزارية في الحكومة المصرية وفي حزب الوفد الحاكم وقتها، كان قائدا سياسيا لكل المصريين، إذ يذكر عنه قوله الشهير إن «مصر ليست وطنا نعيش فيه بل وطن يعيش فينا، ونحن مسلمون وطنا ونصارى دينا، اللهم اجعلنا نحن مسلمين لك، وللوطن أنصارا، اللهم اجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين».. ورغم أن النخب العسكرية التي حكمت مصر بعد عام 1952، مع الحكم الجمهوري، هي نخب ليبرالية - قومية، فإن طبيعة السياقات الاجتماعية والثقافية للنخب العسكرية - السياسية في النظام الجمهوري الجديد، تنزع بهم نحو قدر من الانغلاق والمحافظة السياسية.. لذا فإن أقباط مصر قد عانوا من التمييز والتهميش السياسي، ولربما التضييق الديني. فحرية بناء كنائسهم ومؤسساتهم الدينية قد ربطت برئاسة الدولة. كما أن تنامي التيارات الدينية المتطرفة في مصر منذ الثمانينات حتى الآن، قد قاد إلى أن تتعرض كنائسهم ومحلاتهم التجارية للحرق. وهو الأمر الذي ارتفعت وتيرته إبان حكم جماعة الإخوان لمصر وبعيد سقوطهم من الحكم! وتحجب أمام أقباط مصر بعض قطاعات العمل في الجامعات والمؤسسات التعليمية العليا، كما يتدنى حضورهم في قطاعي الشرطة والجيش، حيث تسود قيم تتسم بقدر مهم من المحافظة الاجتماعية والسياسية. ويتخوف أقباط مصر من وصول أي جماعة مصرية إسلاموية للحكم كما هو في حالة الإخوان سابقا، ولهذا فهم رغم شكوى التهميش مع نظام العسكر فإنه يبقى بالنسبة لهم أهون كثيرا من أي نظام حكم إسلاموي. وهي حالة لربما تشترك فيها كل الطوائف والأديان، فقدرة الأفراد الذين في السلطة على تحييد معطاهم الذاتي، الديني أو القبلي، على معطى حيادية الدولة أو السلطة، تبدو ضعيفة. فالكثير من الحروب الأهلية التي تسود في البلاد العربية هي نتاج للطريقة التي فكر ويفكر بها رجالات الحكم أو القوى المؤثرة في المختلف المحلي، الديني أو المذهبي أو القبلي أو الجهوي، أو غيرها. وهي تخيلات تدفع نحو مجموعة ممارسات تحول بعضا من هذه التشكيلات مع الوقت إلى قوى توصف في خانة الضد، أي بتعبير آخر فإن الدولة العربية رغم ما تبدو عليه بعض هياكلها من حداثة خارجية، ما زالت تعمل وفق منطق الغلبة أو ما يسميه روغر أون «حكم الأغلبية الإثنية»، وهو الأمر الذي يضعف من تماسك النسيج الاجتماعي الداخلي، الأمر الذي يقود إلى اختلالات خطيرة في التوازنات الداخلية للمجتمع. فحكم الأقلية أو الأغلبية في معطاها الديني أو القبلي ولربما العسكري في المنطقة العربية، غالبا ما يرافقه قدر من الإقصاء بحق الجماعات الأخرى داخل المجتمع الواحد.

وبشكل عام فإن هذه المواقف لا تقف عند هذه الأشكال من الضديات، فهي قد تأخذ مضادات تتمثل في بعض الدول في الأشكال التالية: عرب وأعاجم، أو عرب وأمازيغ، أو مسلمين ومسيحيين، أو سنة وشيعة، أو حضر وبدو، أو فلسطينيين وأردنيين.. وهي مواقف في جلها تعبر عن عدم قدرة الدولة العربية على أن تتسق في ممارساتها مع العهود الدولية الجديدة التي تعطي الأفراد حقوقا متساوية بعيدا عن عنصر اللون أو الجنس أو الدين أو الطائفة أو الطبقة. وهي إشكالية ستعيشها الدولة العربية لقدر لا يبدو قصيرا من الزمن. فما اشتكى منه شيعة العراق في عهد النظام السابق، بات يشتكي منه سنّة العراق بعد وصول الإسلام السياسي الشيعي للسلطة في الدولة العراقية.