كلنا جواسيس

TT

منذ أن قرأت أن المخابرات الأميركية تتجسس على هواتفنا المحمولة حتى بدأت طاحونة الأسئلة تدور في رأسي. إنها ليست قضية زوجة غيور تتطفل على تليفون زوجها وتحاول أن تتحرى الأسماء الناعمة فيه. فالأمر هنا يتعلق بي وبك وبزوجتك وبالملايين من خلق الله الغافلين عن ذراع «الأخ الأكبر». إنها تتسلل إلى أسرارنا ومشكلاتنا وأهوائنا وحتى ثرثراتنا السطحية مع الأصدقاء. ولا بد أن أصحابها يجدون لدينا ما يفيدهم وإلا لما أنفقوا المليارات لمجرد أن يكتشفوا أن أحمد أخذ موعدا لدى الحلاق وأن سميرة طبخت باميا.

معنى هذا أننا أصبحنا جميعا مصادر لمعلومات لا حد لها، كنز استخباراتي يغطس فيه عسس لا نعرفهم ويستخرجون ياقوت الكلام. نحن جميعا عملاء لـ«سي آي إيه» رغما عنا، متطوعون نعمل بلقمتنا، أي بحسن النية، دون مقابل. وليت الأمر وقف عند المكالمات الهاتفية، فآخر الأخبار تقول، إن «أجهزة المخابرات في واشنطن ولندن قد دست أنوفها حتى في الألعاب الإلكترونية وتطبيقاتها على الهواتف الذكية، بحجة معرفة ميول مستخدميها وفرز من كان منهم إرهابيا». أي ورطة هي هذه؟

صرت أتوجس من هاتفي الصغير وأشك فيه، رغم أنه من النوع القديم «الغبي». وأسرعت أغربل محادثاتي ورسائلي الإلكترونية، على براءتها، لأنني لا أحب أن أكون جاسوسة لأي من كان. هذي مهنة منحطة، ومهما حاولت الروايات والأفلام تجميلها واستثمار مواطن الإثارة فيها فإنها تبقى كذلك. لسنا سذجا، أو بالأحرى ساذجات، لنتصور أن كل عميل سري يشبه جيمس بوند، الأصلي والقديم. إن الجاسوس، في معاجم اللغة، ليس العين التي تتجسس على الأخبار وتأتي بها فحسب، بل هو الباحث عن العورات، وصاحب سر الشر، مقابل الناموس الذي هو صاحب سر الخير. وقد جاء في الحديث الشريف «ولا تجسسوا». واللفظة مشتقة من الفعل جس. وهذا يعيدنا إلى أيام طيب الذكر فهد بلان. لقد غنى من كلمات عمر الحلبي وألحان عبد الفتاح سكر «جس الطبيب لي نبضي فقلت له إن التألم في كبدي، فاترك يدي يا سيدي». ويومها رقص العرب من المحيط إلى الخليج وتغاضوا عن فتح الباء في نبضي، لزوم الإيقاع، بدل تسكينها.

والحكاية تجر الحكاية. وقد وجدت نفسي، ذات يوم، موقوفة في القاهرة لأنني كنت ألتقط صورة لابني أمام مبنى مجلس الشعب. فقد اعترضني أحد العساكر وقادني إلى ضابط الحراسة الذي قال إن التصوير ممنوع. وقد كان من الأسلم لي أن أعتذر وأطلب السماح. وهي خبرة ثمينة اكتسبتها لاحقا. لكن وسواسا خناسا حرضني، يومها، على مجادلته فقلت إن المكان هو مجلس الشعب ومكشوف لكل الشعب، وليس منطقة عسكرية. وطبعا لم يعجبه كلامي، وعرف من لهجتي أنني عراقية فقرر أن يفتح لي محضرا. كنا في فترة الخصام بين بغداد والقاهرة بسبب المعاهدة إياها. وقد زاد من شكوك الضابط أنني أحمل بطاقة صحافية رسمية فرنسية. ولعله ظنني ماتا هاري وقد وقع على شبكة دسمة. ولم ينفع معه اقتراحي بأن يأخذ الفيلم الموجود في الكاميرا ويخلي سبيلي، بل أصر على نقلي إلى قسم السيدة زينب، طالما أن المحضر قد فتح ولا يمكن إلغاؤه. ظننت أنني في مزحة تشبه الكاميرا الخفية ولا يمكن للموقف أن يكون خطيرا. أنا في القاهرة الحبيبة وقسم السيدة زينب يعني التقرب من شخصيات نجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله ويحيى حقي. وقد قلت هذا الكلام للضابط وأخبرته بأن هذا الولد، ابني، نشأ خارج وطنه، وقد تجاوز العاشرة وهو لا يعرف بلادنا، لذلك جئت به إلى القاهرة ليتعرف على أرض العروبة. وتصورت، بعد تلك الخطبة العصماء، أنه سيقف ويأخذ لي تعظيم سلام. لكنه أشار إلى شاحنة عند الرصيف وطلب مني الصعود إليها، مخفورة، مع ابني. وهنا ثار طبعي العراقي وقلت له إن الإسرائيليين يطوفون مع كاميراتهم في مصر كلها دون أن يقلقهم أحد، فهل يعقل أن يكونوا كلهم سياحا وأنا جاسوسة؟

لم يخرجني من قسم السيدة زينب، عند المساء، سوى اتصالات عاجلة أجراها غالي شكري، زميلي في مجلة «الوطن العربي» آنذاك. وعلى ذكر المجلة، فقد روى صاحبها وليد أبو ظهر أن قارئا اقتحم مكتبه في صحيفة «المحرر» في بيروت، ذات يوم، وقال له: «أنت أكبر عميل للسي آي إيه». ورد عليه أبو ظهر: «أنا والله ما عندي مانع.. بل هات من يقنع الأميركان بي».