سوريا بين دوامة العنف ووهم التفاوض: الخوف من المستقبل

TT

انتهى «جنيف» الأول وسيعقبه «جنيف» ثانٍ، ولربما ثالث ورابع، قبل أن نرى بصيصا من نور بانتهاء هذه الحرب الطاحنة في سوريا. المتفائلون قلة والمتشائمون كثر، لكن العملية السياسة ماضية، لأن اللاعبين الكبيرين، أميركا وروسيا، قررا التفرج على هذه الحرب، لكن مع بقائهما منخرطين فيها بنسب متفاوتة، وما دامت الحرب لا تنتهي برجحان أحد على آخر يبقى السؤال: كيف لهذه الحرب أن تضع أوزارها؟

هناك ثلاثة محاور لفهم ما يجري في عملية التفاوض وعلى مسرح المعارك بين المتخاصمين. المحور الأول يدور حول القرار الدولي الذي تملك أوراقه روسيا وأميركا، اللتان قررتا لغاية الآن إبقاء الوضع على وفق المعادلة التالية: صمود الأسد عسكريا، وعدم السماح له بالانتصار سياسيا. هذا المسار أصبح واضحا بعد مهزلة الأسلحة الكيماوية وتراجع الرئيس الأميركي، بموافقة من نظيره الروسي، عن توجيه ضربة عسكرية للأسد كانت ستسبب حتما اختلالا في موازين القوى على الأرض. ومما يعزز هذه الرؤية وجود الدلائل على أن الرئيس أوباما لا يريد الانخراط كليا في الأزمة السورية، ولا العراقية، وأنه يفضل التفرغ للشأن الداخلي الملّح، وكذلك للتوتر المتزايد والمقلق بين اليابان والصين. فالإدارة الأميركية بالطبع لا تحبذ بقاء الأسد، لكنها ترى أن الحل هو بإنهاكه، وجره بالتعاون مع الروس إلى جنيف، وإجباره على الخروج من العملية الانتقالية، وبدء مرحلة جديدة في سوريا، مع الاحتفاظ بمؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية، قدر ما أمكن، والتفرغ إلى معالجة «خطر (القاعدة)» والتطرف، وبناء الدولة السورية. المشكلة في هذا الطرح أنه يخرج الشعب السوري من المعادلة، ولا يلقي بالا للدماء التي نزفت والتي ستنزف قبل رحيل الأسد.

بالمقابل يرى الروس أن الأسد لا يزال يمثل مصلحة استراتيجية لهم، وأن بقاءه في السلطة ضروري لحين إيجاد البديل الذي يحفظ المصالح الروسية. ولا يجد الروس غضاضة في تسليح الأسد، وبتمويل إيراني، ما دام أنه غير قادر على حسم المعادلة العسكرية، لأن الحسم سيؤدي إلى الإخلال بمعادلة التوازن التي تؤمن بها أميركا، وهو ما لا يريده الروس لأن ذلك سيؤدي إلى حرب باردة لا يحبذونها، ويعرفون أن نتائجها ستكون سلبية عليهم. كذلك يشعر الروس بأن وضع الحرب السورية على نار جنيف ضمن معادلة التوازن سيسمح لهم بالتفرغ إلى ملفات طارئة مثل الألعاب الأولمبية ومكافحة الإرهاب الذي يضرب روسيا، والأهم الوضع المتأزم في أوكرانيا المهمة جدا لروسيا. كما أن القيادة الروسية تريد في الوقت ذاته التفرغ إلى قضايا داخلية طارئة. هذه العوامل كلها تحمل الروس على ملاقاة الأميركان في «جنيف»، المتمثل بجمع المتخاصمين ودفعهم إلى التفاوض قدر ما أمكن ريثما تبرز ملامح جديدة للحل. هذا السياق يعطي الروس دورا فاعلا في المنطقة، ويعزز صورتها في المعادلات الدولية، ويتناغم مع الدور الأميركي، والرؤية الإسرائيلية التي تريد إنهاك سوريا، ومنع قيام دولة قوية يكون للسنة فيها الدور القيادي.

المحور الثاني يتمثل بالمعادلة الإقليمية بين إيران والمملكة العربية السعودية وتنافسهما المستمر على رسم ملامح الشرق الأوسط. تعتبر إيران أن خسارة سوريا هي بمثابة مقتل لمشروعها المتمدد في الشرق الأوسط، والمتمثل بفتح خط بغداد - دمشق - بيروت - فلسطين، وامتلاكها أوراق المنطقة وبالتحديد القضية الفلسطينية. وترى أنه من الضروري لها الاستمرار بمنطق المواجهة وتعزيز أوراقها، خصوصا أن اتفاقها مع الغرب حول برنامجها النووي سيسمح لها بتجنب العزلة الدولية ولو جزئيا، وبالتالي فإن إمكانية صمودها إقليميا ستتعزز أكثر، وستتمكن بالتالي من إعادة كسب أوراق خسرتها بسبب الصبغة الطائفية لسياساتها في المنطقة. ولهذا فإن إيران، المستبعدة من التفاوض في جنيف، ستصر على دعم النظام السوري، وتدفعه إلى رفض أية تنازلات، في ظل التهاون الدولي، ما دامت لم تحقق بعض الأهداف الاستراتيجية. فسوريا تمثل قلب السياسة الخارجية الإيرانية ولن تفرط فيها ما لم يصبح الثمن أكبر بكثير من المنافع التي تحرزها.

على الجهة المقابلة ترى المملكة أن العالم العربي اختل توازنه بعد سقوط نظام مبارك، وأن عودة مصر لن تكون سريعة، وبالتالي فهي مضطرة إلى مقاومة التمدد الإيراني بالأدوات التي تملكها. وتشعر المملكة أكثر من غيرها أنها غير مرتاحة من سياسات النظام الإيراني ذات الصبغة الطائفية، والهادفة إلى تفكيك الداخل العربي، وبالتالي تعتبر خسارة سوريا نكسة كبرى. ولهذا عززت تحالفها الاستراتيجي مع فرنسا، ولم تعد تعول كثيرا على الدور الأميركي المباشر، وبدأت ترى أن الحل هو بعدم السماح للنظام السوري بالانتصار، وأنه لا بد من دعم المعارضة، وتوحيدها، والحيلولة دون تمدد التطرف، وشن حملة دبلوماسية تظهر مخاطر ما يجري في المنطقة، وتداعياته على الأمن الإقليمي والدولي. وقد بدا واضحا الدور السعودي في جنيف عندما شدد وزير الخارجية السعودي على عدم تضييع الوقت والبدء بالتفاوض على المرحلة الانتقالية لأن الهدف هو إخراج الأسد من السلطة وبدء بناء الدولة السورية وفق نفس المعادلة الدولية. فالمملكة لا تعارض في المبدأ الرؤية الأميركية بأن الحل هو خروج الأسد وبقاء مؤسسات الدولة، ومحاربة التطرف، لكنها تصر على الإسراع بالحل لأن التأخير لن يكون في صالح أحد.

أما في ما يخص المحور الثالث فإنه يتعلق بالوضع الداخلي السوري وتداعياته على التوجهات الدولية والإقليمية. هذا المحور على قدر من الأهمية لأنه هو المحدد لكل المسارات، ولأنه يتعلق بقناعات الشعب السوري، الذي ثار من أجل الحرية والكرامة وبناء الدولة الحديثة. ورغم الإحباط الذي يسود فئات كبرى من الشعب السوري، وانزياح الرومانسية عن الربيع العربي، إلا أن الشعب السوري تمكن من توليد معارضة سياسية تكتسب مناعة يوما بعد يوم، وتمكن من توليد مقاومة عسكرية تتزايد فعاليتها، وتوجد محاولات وإن لم يكتب لها النجاح الكامل لتوحيد الجهد العسكري وتفعيل التواصل مع الائتلاف الوطني لتحقيق أهداف الثورة السورية. ويبدو أن هذا المحور يعاني من خطرين، أولهما انفتاحه غير المدروس على القوى الإقليمية المختلفة في أجنداتها، وثانيهما الاختلاف الواضح حول سوريا المستقبل. وهنا تكمن مشكلة ما تريده القوى الإقليمية والدولية وما يريده الأطراف السوريون.

ومع بقاء هذه المحاور على حالها فإن الحرب مرشحة للتصاعد، وستكون المفاوضات ستارا لإنهاك المتقاتلين، واستنزاف القوى الإقليمية، ولن يكون بوسع الأطراف السورية المتقاتلة تغيير المعادلة، وما جنيف إلا دليل حي على ذلك. ولكي يتجنب السوريون تسويات دولية وإقليمية على حسابهم، لا بد لهم من إعادة النظر في الاستراتيجية المتبعة، لأن استمرارها سيولد نظاما سوريا فاشلا، يعتمد على سلطة مركزية تتقاسمها قوى طائفية وعرقية كما هو الحال في لبنان والعراق. لذلك فإن أولى الخطوات هي العمل على توحيد العمل العسكري وطرد الفئات المتطرفة التي تريد القفز على السياسة، واعتراف الائتلاف الوطني السوري بالثقل الإسلامي للثورة، وقبول الإسلاميين بالواقع وفهم التوازنات الدولية والعمل بنية صادقة مع الآخرين لوضع خارطة لسوريا المستقبل تراعي مطالب الأكثرية السنية، ومخاوف الطوائف الصغيرة، والأقليات العرقية، وترسم نمط علاقة متميزة مع الجوار العربي والإسلامي على قاعدة الابتعاد عن المحاور وتعزيز مكاسب الثورة وأهدافها. إن الثورة السورية، كبقية الثورات في العالم، ستنتصر، إنما الخوف من أن يكون هذا الانتصار أقل بكثير من التضحيات التي قدمها السوريون.

* كاتب لبناني مقيم في لندن