المواطنة هدف عظيم

TT

هناك هدف غير معلن ولكنه واضح موجود في كافة الخطط التنموية السعودية، وهو إذكاء وتعزيز روح الوطنية وتكريس روح الانتماء، وهي مسألة في غاية الحساسية والأهمية، كما أنها تفسر ما وراء سياسات العمل من إحلال وظيفي لأبناء وبنات الوطن بشكل مكثف ومنحهم الأولوية، وتفسر السياسة التعليمية والابتعاثية الطموحة التي تأمل في فتح أبواب العلوم والمعرفة والحضارات والثقافة على جيل بأكمله بشكل غير مسبوق في التاريخ الحديث.

السعودية كيان وُحّد تحت راية يعتز بها كل من ينتمي لهذه البلاد، وهي بلد فتي بتاريخ قديم مستمد من موقعها الجغرافي، وهي تسير بخطى حثيثة للانتقال من فكرة الكيان إلى فكرة الوطن، وهي مسيرة فيها العديد من المراحل المهمة التي ستجعل كل ذلك ممكنا. هناك مسيرة الأنظمة والقوانين والتشريعات التي يجري العمل على تطويرها من خلال مؤسسات الدولة المختلفة التنفيذية والتشريعية، وذلك لإبراز الحقوق والواجبات التي تخص المواطن وعلاقة الدولة بكل ذلك، وطبعا هذه الوسائل تتطور مع الوقت، وقد تحقق في ذلك تطور نسبي لا يمكن إنكاره يهدف إلى «مأسسة» السياسات والعلاقات بشكل ثابت بعيدا عن التدخل والأهواء.

كم هو مطلوب رفع مستوى التوعية عن طريق المنابر والإعلام بدلا من الانشغال بمسائل أقل أهمية، وأن يكون هذا الأمر مصاحبا بفتوى صريحة تحرم التفرقة مدعومة بنظام واضح وصريح يجرم ذلك حتى لا يكون هناك مجال لسوء التصرف خارج الشرع ولا النظام. هذه مسائل نبّه إليها بشكل واضح الأمير سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد، أخيرا حينما صرح بأن الاعتزاز بالقبيلة والعائلة شيء مهم ولكن يجب ألا يكون على حساب الوطن وأكثر منه. وهو كلام في غاية الدقة وفي غاية الأهمية أيضا. والسعودية خاضت معارك فكرية مهمة في زرع فكرة المواطنة والوطنية ضد التطرف والتشدد والتنطع، وواجهت فتاوى تحرم الاعتزاز بالانتماء الوطني، ومع ذلك استمرت في نهج وسطي تزرع فيه بالتدريج بذور الوطنية والمواطنة، وبدأت في تكريس منهاج المواطنة ضمن مقررات التعليم، وهي خطوة أساسية في تأسيس النشء على قيم مهمة وجوهرية، ولعل من أهم أدوات تأسيس وتكريس روح الانتماء الوطني إطلاق خدمة العلم أو التجنيد الإلزامي كما يطلق عليه.

الجيش مؤسسة عسكرية فيها الكثير من قيم الانضباط والالتزام، وهي مسائل مطلوب تكريسها في الشباب الذي سيكون مقدما على الحياة وتحدياتها ومسؤولياتها المختلفة، فالجيش مؤسسة صارمة وجادة وحازمة تكرس روح الانتماء والتضحية والعطاء والبذل، وهي معان يتم تدريسها في المدارس ويطلع عليها الشباب كالشعارات المثالية ولكنهم لا يعيشونها بالمعنى الدقيق، وطبعا المؤسسات العسكرية لها أنشطة مختلفة داخل المجتمع في مجالات الرياضة والطب والنشاط الخيري، والمساهمة فيها تزيد من الحس الوطني المطلوب وبشدة. هناك العديد من الأمثلة اللافتة التي كان للتجنيد الإجباري فيها (وفي دول فتية أيضا) الأثر الهائل في رفع روح الانتماء وإذكاء روح المواطنة، وهذا الأمر ملموس وبشدة في حالتي سنغافورة وتايوان على سبيل المثال، فالجيش أو المؤسسة العسكرية بصورة عامة مؤسسة فيها نهج إداري أكثر صرامة وأكثر مساواة وأقل فسادا، هذا هو الانطباع العام الموجود عن المؤسسات العسكرية. والتجربة الخاصة بخدمة العلم أو التجنيد الإجباري عادة ما تترك أثرا إيجابيا إذا تم طبعا التعامل مع الموضوع بمهنية واحتراف وجدارة، فهي التجربة التي تحدث في النشء النقلات النوعية المطلوبة وتزرع الكثير من البذور «الوطنية» و«القيمية» التي قد تصيب أو تخيب خلال مشوار الحياة الطبيعي.

إذكاء الحس الوطني بكل الطرق مسألة «استراتيجية» للسعودية اليوم، فهي بمثابة مضاد حيوي ضد فيروسات الفتن والاضطرابات والقلاقل، كما أن موضوع دراسة خدمة العلم أو التجنيد الإلزامي فكرة مهمة تستحق الطرح والتمعن في فوائدها، لأن عوائد هذه المسألة تتخطى «محدودية» توسيع عدد أفراد القوات المسلحة إلى موضوع أهم وأعمق وأدق، وهو رفع حس الانتماء لبلد ووطن يستحق الافتخار به والتضحية من أجله، وهذا هدف في غاية الأهمية. روح المواطنة والانتماء تذكى بوسائل «فكرية» وأخرى «عملية»، وترابط الاثنين معا يزيد من نسب النجاح في إنجاز هذا الهدف النبيل.