رئاسة المشير عبد الفتاح السيسي

TT

حتى وقت كتابة هذه السطور لم يكن هناك توقع آخر غير أن المشير عبد الفتاح سعيد حسين خليل السيسي سوف يكون الرئيس القادم لجمهورية مصر العربية. ومنذ أن بزغ اسمه في سماء السياسة المصرية بات موضوعا للدراسة والتحليل من مراقبين ومحللين من كل نوع وصنف، وكلها تبحث عن طبيعة الرجل الذي سوف تعتبره جماعة آخر «الفراعنة» الذين يحكمون مصر، بينما تعتبره جماعة أخرى أول القادة للجمهورية الثالثة المصرية التي ينتظر أن تكون ديمقراطية هذه المرة. الجمهورية الأولى جاءت مع الإطاحة بالأسرة العلوية - نسبة إلى محمد علي الكبير - على يد ثوار يوليو (تموز) 1952 وجاء منها الرؤساء محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك، والثانية جاءت مع انتخاب الدكتور محمد مرسي أحد قادة جماعة الإخوان المسلمين رئيسا للجمهورية وتنصيبه في 30 يونيو (حزيران) 2012، والثالثة الآن في دور الصناعة بعد أن تقرر إجراء انتخابات الرئاسة المصرية خلال شهور قليلة. ورغم أن مائدة الأنباء في القاهرة عامرة بتوقعات ترشح الفريق سامي عنان رئيس الأركان المصري السابق، وحمدين صباحي قائد التيار الشعبي، وعبد المنعم أبو الفتوح رئيس حزب مصر القوية، وربما طائفة أخرى من الأسماء غير المعروفة منها المرشح السابق لرئاسة الجمهورية خالد علي، كلهم للمنصب الرفيع، إلا أن نجم المشير السيسي ليس فقط أكثرها لمعانا، وإنما توجد مسافة هائلة بينه وبين الآخرين من حيث التأييد الشعبي. فمن هو يا ترى هذا الرجل الذي بات يعتمد عليه وعلى قدراته أكبر الدول العربية وأكثرها سكانا، وهل يمكن مما نعرفه، وهو ليس بالكثير، أن نستخلص شيئا عن رئاسته لمصر والمصريين؟

أربعة صور ظهرت للرجل خلال فترة قصيرة لا تزيد عن عام. الأولى جاءت فور توليه منصب وزير الدفاع بقرار في 12 أغسطس (آب) 2012 من الرئيس محمد مرسي الذي لم يكن رئيسا لمصر بقدر ما كان رئيسا لأهله وعشيرته من الإخوان المسلمين ومن انبثق عنها من جماعات أصولية متطرفة. الصورة الثانية كانت صورة الجندي المحترف وأخذت تتكون تدريجيا مع ما ظهر من اهتمام وزير الدفاع وعمله الشاق من أجل استعادة القوات المسلحة المصرية لقدراتها القتالية بعد عامين من النزول إلى الشوارع والميادين بعد يناير (كانون الثاني) 2011. تاريخ المشير الذي بدأ في الظهور شجع كثيرا هذه الصورة، فتاريخه تاريخ رجل ممتاز من رجال العسكرية المصرية حينما خدم ضابطا صعد في سلم المناصب منذ كان قائدا لكتيبة حتى لواء وفرقة ومنطقة عسكرية وسلاح المخابرات الحربية الذي جعله أصغر الأعضاء سنا في المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي تولى السلطة بعد الإطاحة بالرئيس مبارك. دراسات المشير داخل وخارج مصر في الولايات المتحدة وبريطانيا كانت كلها عسكرية، وكلها كانت تؤهله للقيادة العسكرية بامتياز. الصورة الثالثة تكونت عبر عام في أحلام الجماعات والأحزاب الناصرية في مصر، والتي بدأت تنسج صورة قائمة على التجربة الناصرية، فالمشير له من «الكاريزما» ما يؤهله لتلك الحالة من المشابهة مع عبد الناصر، وما جرى معه من ظواهر من أول الغناء وحتى قطع «الشوكولاته» لم يحدث من قبل إلا لناصر. وبالتأكيد كان في خطاب الرجل عن «الوطنية» المصرية و«الوطن» المصري، وبعض من اللمسات «العروبية» ما يجعل الصورة طبق الأصل، أو هكذا دار الأمر في خلد جماعات وأحزاب. الصورة الرابعة تختلف عن كل الصور السابقة، وتحتاج إلى قدر من التمعن في صريح الكلمات ومضمونها، وربما خبرتها شخصيا لأول مرة ذات صباح في شهر أبريل (نيسان) الماضي في واحدة من القواعد العسكرية عندما اجتمع الفريق أول السيسي في ذلك الوقت مع مجموعة كبيرة من الكتاب والمفكرين والفنانين وأصحاب الرأي من قادة المجتمع الأهلي في مصر. كان قد بات واضحا أن الإخوان المسلمين يعملون على تغيير مصر من خلال عمليات عنيفة وسلسلة «لأخونة» الدولة المصرية وجعلها مطابقة للدولة الإيرانية. ساعتها وقف العديد يطالبون القائد العام للقوات المسلحة بالتدخل وأن ذلك يمثل واجبا وطنيا لإنقاذ مصر. كان الأمر أشبه بصرخة استغاثة من غول مخيف بدأ يأخذ بتلابيب مصر المحروسة، ولكن رد فعل رجلنا كان داعيا إلى التفكير؛ فقد كان أن القوات المسلحة تؤدي وسوف تؤدي دورها، ولكن ماذا أنتم فاعلون؟ لم تكن المسألة ماذا سوف يفعل القائد ولكن ماذا سوف يفعل جميع أركان المجتمع ونخبته وقادته؟ وبعدها في خطب عديدة بدأت تتسرب كلمات وجمل غير معتادة على الساحة السياسية المصرية حينما قال إنه لو أصبح رئيسا فإنه لن يجعل المصريين ينامون الليل، وإنما سيكون عليهم العمل الشاق حتى يكونوا لائقين بمصر، وإذا كانت مصر حقا «أم الدنيا» فإنها لا بد وأن تكون بقدر هذه الدنيا التي تدعي أمومتها. لم يتحدث عن معجزات سوف تحدث وإنما عن عمل سوف يؤدى، وعرق سوف يبذل، وعطاء سوف يعطى. كانت الصورة الرابعة هي صورة «السياسي» الذي يشق طريقه نحو المقدمة بفكر جديد، لا يزال غامضا نعم، ولكن مقدماته تدفع إلى التفكير في كيف يكون حال الرئاسة المصرية تحت قيادته.

الأيام والأسابيع والشهور القادمة سوف تفتح كتاب المشير السيسي حتى آخره، وربما سوف يكون أول الكتاب هو التخلص من صور لن تعود متطابقة مع مقتضى الحال. ولكنه سوف يكون محتاجا لكي يدفع بصورة الجندي المحترف إلى الخلف، ويدفع بصورة «السياسي» إلى الأمام، فشرعية الرئيس بعد الفوز في الانتخابات سوف تكون قائمة على أن يكون رئيسا مدنيا في دولة مدنية. وإذا كانت المشابهات مع جورج واشنطن وشارل ديغول ودوايت إيزنهاور صحيحة فإن كل هؤلاء اعتمدوا في شرعيتهم ليس على القوة المسلحة وإنما على المؤسسات الشرعية. الصورة الناصرية ربما تكون الأكثر خطرا على صاحبنا، ليس فقط لأنها الأكثر إلحاحا من قبل جماعات وأحزاب و«ثوار»، وإنما لأنها صورة انتمت إلى عصر آخر ولى وراح ولم يبق منه إلا ذكريات مؤلمة. «الجمهورية الثالثة» ربما تكون مجرد شعار، ولكنها إمكانية لا يمكن تجاهلها، وقد جرت مياه النيل كثيرا تحت الجسور، وهي الآن ربما تنتظر فصلا آخر من تاريخ طويل.