منطقة قطعت «خط الرجعة»

TT

بات من العبث التعامل مع أزمات التعايش في المشرق العربي كلٍ على حدة.

الصورة الكبيرة واحدة مع اختلاف التفاصيل. ومن دون تكرار رتيب لما يتجلّى ويتوضّح يوما بعد يوم، أزعم أن أي عاقل يدرك الآن وجود تيّارات قطعت «خط الرجعة».. وهي ماضية قدما في مشاريعها الصغيرة إلى أن تُمنى بالهزيمة أو تجد نفسها في طريق مسدود.

ما يظهر لتاريخه أن أحدا من أصحاب المشاريع الصغيرة لا يشعر بعد أنه وصل إلى طريق مسدود، كذلك بديهي أن لا جهة اقتنعت بأن رهاناتها خاسرة. وبالتالي، علينا توقّع إمعان اللاعبين الصغار بالذهاب أبعد في تدمير بلدانهم خدمة لداعميهم من أصحاب المشاريع الأكبر، بينما لهؤلاء من مخزون القوة ما يتيح لهم المناورة والبيع والشراء وتقديم التنازلات «من جيوب» الآخرين وعلى أنقاض كياناتهم، بل وجودهم.

الصورة الكبيرة يجسّدها سعي «حالة شيعية سياسية»، تتبع القيادة الإيرانية وتلتزم بها، إلى التمدّد والاستحواذ عبر تحقيق الغلبة بالقوة، ومن ثم، تبرير مواصلتها السير قدما في نهج الغلبة بمقاومة رد الفعل الراديكالي «الإرهابي» الصادر عن الساحة السنيّة الجريح.

«الحالة الشيعية السياسية» هذه كانت تبرّر تحرّكاتها بذرائع شتى تتنوّع تبعا للمكان والزمان والظروف.

في العراق كانت الذريعة «الديمقراطية» و«حقوق الإنسان»، مستفيدة أولا من واقع الغالبية الشيعية العددية، وثانيا السجل غير الحميد للرئيس العراقي السابق صدام حسين في ما يتصل بحقوق الإنسان. وبما أن صدام حسين كان يدّعي «النضال القومي» المحفّز إلى تطوير قدرات عسكرية كفيلة بضرب إسرائيل، لم يكن عند مناوئيه في «الحالة الشيعية» طروحات حقيقية ضد إسرائيل. وحقا كان «اللوبي الليكودي» في وزارة الدفاع الأميركية، في الوقت المناسب، على رأس الكتل المحرّضة على غزو العراق وإسقاط صدام بعد ضرب مشروعه النووي في بداياته. وبعد أيام، بل ساعات، من إكمال احتلال القوات الأميركية العراق عاد أفراد «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» وجماعة «حزب الدعوة» وغيرها من القوى الشيعية إلى العراق المحتل من منفاهم في إيران والدول الأخرى.. وانضموا إلى «مجلس الحكم» وشكّلوا الحكومات وهم اليوم عمليا حكّام البلاد.

ولكن في سوريا كانت الذريعة مختلفة. هنا كانت «العروبة» و«الاشتراكية» و«العلمانية» و«العداء المحموم» لـ«العدو الصهيوني»، .. ومن ثم قيادة جبهة «الصمود والتصدّي» ضد إسرائيل و«الإمبريالية». ولقد وقف النموذج السوري من حزب البعث العربي الاشتراكي إبان الحرب العراقية - الإيرانية ضد العراق «العربي». وترك الجولان محتلا مفضِّلا التوجه غربا لاحتلال لبنان، كما فعل لاحقا حزب الله اللبناني الذي ترك مزارع شبعا «تحت الاحتلال» لكي يتفرّغ لتحرير القصير من سكانها داخل سوريا.

كذلك في سوريا، حيث يشكّل السنّة غالبية سكانية، رفع هذا النموذج شعار «العلمانية». ثم، ادعى بعد ثورة 2011 حماية الأقليات، وهذا مع أنه ارتكب بحق الأقليات في لبنان أصنافا وألوانا من التنكيل.. اغتيالا وسجنا ونفيا. ثم على الرغم من العلمانية، رعى تأسيس هيمنة لحزب ديني مذهبي صريح غدا حليفا داخل لبنان.. وداخل سوريا أيضا.

أما في لبنان، فكانت لدى «الحالة الشيعية السياسية» ذريعة «المقاومة والتحرير».. قبل أن يحتكرهما حزب الله كما احتكر حق حمل السلاح في أعقاب «اتفاق الطائف» عام 1989، وهذا مع أن مطلقي شرارة مقاومة الإسرائيلي - بمن فيهم الشيعة - ما كانوا من أتباع هذه «الحالة» أو المؤمنين بها.

ونصل إلى اليمن. هنا تتمدّد الحركة الحوثية في شمال البلاد بالتوازي مع دعم «الحالة الشيعية» تكتيكيا قوى جنوبية وبعض الجماعات الشمالية، تارة تحت شعار «الفيدرالية» وطورا بحجة التصدّي لـ«السلفيين». وفي هذا المجال لا بد من الإشارة إلى أن أخطاء القيادة اليمنية السابقة أسهمت كثيرا في إنهاك النسيج اليمني، وأدّى تجميع الرئيس السابق علي عبد الله صالح معظم السلطة الفعلية في يديه وأيدي أبناء عائلته وقبيلته، إلى تنامي النفور ليس فقط عند الأقليات فحسب، بل أيضا في أوساط قبلية ومحلية (جهوية) سنّية شعرت أنها كانت مغبونة في فترة حكم صالح التي امتدت أكثر من 33 سنة. ولعله من المفارقات اللافتة أن إيران تدعم اليوم فريقين رئيسين هما من الناحية الآيديولوجية على طرفي نقيض: الأول الجماعات الحوثية الشيعية التي تقاتل تحت اسم «أنصار الله».. والثاني اليسار الماركسي السابق في الجنوب السنّي!

وضع كهذا كان لا بد أن يولّد شعورا بالإحباط الشديد في الشارع السنّي على امتداد المنطقة، وبالأخص في الدول المعنية الأربع، حيث نشأت بيئة قلقة على مصيرها وتربة خصبة لتنظيمات راديكالية إرهابية تستسهل التكفير وتحلّل القتل الجماعي. وعند هذه النقطة، مع انهيار الروابط الاجتماعية والوطنية والتعايشية، ودخول أطراف خارجية راديكالية ناقمة وحاقدة - وبعضها مشبوه أو مغرّر به - على خط المواجهة، بتنا نعيش عداء إلغائيا يقتات من التطرف والتطرّف المضاد..

«الحالة الشيعية السياسية» تدرك اليوم أنها ما عادت قادرة على التراجع عن مغامرة الهيمنة بعد جريان أنهار الدم، والشارع السنّي أيضا لن يقبل بأن تذهب سدىً كل تضحياته وخسائره الجسيمة.. بشريا وسياسيا. وهكذا ارتسم سيناريو «اللا تراجع»، وفيه تحرص «الحالة الشيعية» على دفع خصومها عمدا نحو مزيد من اليأس المفضي إلى العنف الإرهابي المرفوض دوليا، لأنها وفق حساباتها ستربح على مستويين:

المستوى الأول دولي، يقوم على تصوير خصومها من الراديكاليين السنّة بأنهم أشدّ خطورة منها على السلام الإقليمي والعالمي، وهكذا، تكسب المجتمع الدولي في صفها من منطلق المصلحة المشتركة في مقاومة «الإرهاب التكفيري».

والمستوى الثاني شيعي داخلي، لأنه كلما ازداد القمع والدم.. تناقصت حظوظ الاعتراض داخل الجسم الشيعي، ولا سيما إذا كان البديل على الطرف الآخر جماعات متعصّبة وغير منضبطة تكفّر الناس وتقتل على الهوية الدينية والمذهبية. وهذا، بالضبط ما تشدّد عليه خطبُ السيد حسن نصر الله ونوري المالكي في لبنان والعراق، وما نراه من البراميل المتفجّرة في سوريا والزحف الحوثي في اليمن.