ليست «مسمار جحا».. بل مسامير إسرائيلية ـ فلسطينية

TT

هل مجرد الأمل يستحق تحمل سخط الآخرين ورميهم لك بحجارة تجريدك من حبك، ليس لوطنك فقط وإنما للإنسانية جمعاء؟ سؤال يخطر بالبال كلما تذكرت ما تابعت منذ سنوات، وما أتابع الآن من ردود فعل تتسم بالتزمت والتشكك تجاه كل صوت ينده في بريّة الحروب ويرفض همجيتها. نعم، لكن هنا جديد الأخبار أولا. الاثنين الماضي، هبت سوزان رايس للرد على هجمة إسرائيلية استهدفت جون كيري، فهاجمت التعرض الشخصي لوزير خارجية الولايات المتحدة، وقالت إن «الهجوم الشخصي» الموجه إلى كيري «غير مبرر وغير مقبول». مستشارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، لشؤون الأمن القومي، كانت ترد على ساسة تل أبيب الذين أمسك كل منهم بتلابيب بضع كلمات قالها كيري أثناء قمة ميونيخ الأمنية، قبل بضعة أيام، لمح خلالها إلى أن ثمة «كلاما عن عقوبات» إذا لم توضع نهاية للصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، مضيفا التالي: «الرهان خطير للغاية بالنسبة لإسرائيل. هل يريد الإسرائيليون فشل العملية السلمية لكي يكونوا هدفًا لشتى أشكال الردود من الفلسطينيين والعرب؟». من جهتها، أكدت رايس أن موقف كيري إزاء أمن إسرائيل «صلب ولا يرقى إليه الشك»، وأن «موقف الحكومة الأميركية واضح وثابت، ويتلخص في أننا نرفض الجهود الهادفة لمقاطعة إسرائيل أو نزع الشرعية عنها».

كما هو معروف، ليست هذه أول «مشاجرة» بين ساسة حكومتي واشنطن وتل أبيب الحليفتين، وبالتأكيد لن تكون الأخيرة، إنما هل يكون فشل مساعي كيري، إنْ فشلت، آخر مسمار يُدق في نعش عملية التسوية الفلسطينية - الإسرائيلية؟ لستُ من مدرسة إطلاق أحكام مطلقة في المقالات تقفل الأبواب أمام أي تطور محتمل، إنما بديهي أن فشل المسعى الحالي سيضاف إلى مسامير دقها كثيرون وأغلبها كان بوسع ساسة الجانبين تجنّبها، بدل التسلح بها لقتل عملية سلام استبشر بها أغلب مواطني الشعبين.

تعرفون حدوتة شخصية فلكلورية سمعناها صغارًا وتمضي على النحو التالي: وافق جحا (ملا نصر الدين خوجه/او خوجا) على بيع الدار، لكنه اشترط دق مسمار في جدار إحدى الغرف، فلما قبل عارض الشراء على الفور، ابتسم جحا فتشدد وأضاف شرط رفض أي تصرف بوضع المسمار من جانب مشتري العقار، فلا تحريك لمكانه أو وجهته، فوق أو تحت، يمينا أو يسارًا، ناهيك بالخلع التام. وإذ وافق المضطر للشراء، رفع جحا السقف فزاد للشروط أن يُسمح له بتفقد وضع المسمار كلما أراد. حار الشاري في الأمر ولما لم يجد أي مفر، خضع لآخر الشروط، فضحك جحا وسلّم مفتاح الدار، ثم في جيبه وضع الدراهم وانطلق إلى السوق يتبضع. ولم تمضِ بضع سويعات على إتمام الصفقة حتى عاد جحا يدق باب الدار، أي أنه يطبق شرط تفقد وضع المسمار في الجدار، وعلى هذا المنوال استمر الحال.

بالتأكيد، لست أقصد التسلية هنا. بل أضرب مثل «مسمار جحا» في هذا السياق بقلب مثقل ومتعب بآلام ما عاش من سنين ألم وعذاب حالت دون عيش شعبي الجانبين بسلام. وبالتأكيد ليس من حقي، ولا لغيري، السخرية من مطالب الطرفين التفاوضية. وحين يجري تحكيم منطق العقل، ليس لعاقل إسرائيلي أن يضع مطلب «حق العودة» الفلسطيني في موضع مسمار عرقلة التسوية، وليس بوسع المفاوض الفلسطيني النظر إلى مخاوف الإسرائيلي الأمنية فقط من منظور أنها مجرد ذريعة، كلا، بل كلاهما - كمثال - يستحق التعامل الجاد معه من كلا الجانبين، وفي الوقت ذاته، من حق المراقبين عن بعد - المحللين وكُتاب الرأي، مثلا - وضع كيفية تعاطي الطرفين مع مطالب كل منهما موضع نقاش جاد أيضا.

في سياق ما سبق، يمكن القول إن تثبيت ما يصر كل من الطرفين على مشروعيته ليس هو في حد ذاته العقبة، إنما يصبح المطلب المنطقي، أو الحق التاريخي، عقبة أمام التوصل للتسوية حين يعجز كلا الطرفين عن قبول أي مرونة، فيبدو عناد أي منهما نوعًا من تعمّد إفشال أي توصل للتسوية.

الأرجح أن «المعجزة» لن تحصل، أي أن توصل مساعي جون كيري لأي تسوية نهائية، بل حتى ذاك «الإطار» يوصف بأنه «غير مضمون» أن يعمل. ما الفائدة إذن؟ سيصرخ البعض. ولكن ما الضرر من المحاولة؟ قد يجيب بعض آخر. ثم تطوى صفحة مسعى كيري في انتظار أخرى تليها. الواقع أن ثمة فائدة وضررا. نعم، تضرر الآملون في حياة عادية يستحقها البشر الفلسطينيون والإسرائيليون مع مطلع عقد ثان للقرن الواحد والعشرين. واستفاد الذين لا يرون، على الجانبين، حلًا سوى سيناريو «أرمجدون»، كل منهما وفق تصوره، فيتواصل دق مزيد من المسامير، إسرائيلية وفلسطينية، لا فرق، في جدار كل محاولة تسوية.

شاءت المصادفة بعد يوم من نشر ما كتبت عن نزعة الاستقلال الأسكوتلندية، أن أشاهد مساء الجمعة الماضي فيلم قلب شجاع (BRAVEHEART) الذي يدور حول القصة ذاتها، واستوقفني قول الملك إدوارد الأول يخاطب ضباطه وأفراد حاشيته: «المتاعب (THE TROUBLE) في أسكوتلندا أنها مليئة بالأسكوتلنديين»، فيضحك كل من حوله. إنما في الواقع ما هو بأمر مضحك. بل يمكنك سحب ذلك القول على كل طرف يصرّ على فرض وجوده على أرض طرف آخر بالقوة. الإسرائيليون سيكتشفون مهما عاشوا في حالة إنكار ذاتي (STATE OF SELF DENIAL) أن فلسطين مليئة بالفلسطينيين، مثلما تكتظ بهم مخيمات اللاجئين في دول الجوار، كما ينتشر مئات آلاف آخرين في منافي الشتات. وستصدم الفلسطينيين، أيضا كلما استسهلوا الإنكار ذاته، حقيقة أن إسرائيل مليئة بالإسرائيليين، وأنهم يهود، اعترفت بذلك السلطة الفلسطينية أو لم تعترف. رُبّ سائل، أتعرف أنك تخاطر بسخط كثيرين من الطرفين عليك؟ نعم أعرف، وقد يتبعني إلى قبري، إنما سأبقى على أمل إنْ وُلِد لي حفيد عام 2048 (بعد 34 سنة فقط) وقد بلغت إسرائيل حينئذٍ مائة عام، فسوف يعيش إلى جانب طفل إسرائيلي، ليس يخاف أي منهما الآخر، بل يحيان حياة طبيعية، آدمية، كما كل بني آدم وحواء. أكثير هذا؟ كلا. أيستحق تحمل أي أذى؟ نعم.

[email protected]