إنها ثورات مدنية

TT

لم يكن الوعي العربي الذي عانى من التهميش والإقصاء يتمتع بكامل قدراته العقلية عندما شن ثوراته التي تهاوت تحت ضرباتها أنظمة الاستبداد. فليس غريبا إذن أن تأتي النتائج على غير ما تشتهي شعوب هذه الدول، وأن يلد ما يُدعى بـ«الربيع العربي» حروبا أهلية يتساقط فيها العشرات وربما المئات من القتلى يوميا في ليبيا ومصر واليمن وسوريا، وأن يفيض وعاء الاحتراب من دول «الربيع» ليصبّ زيته على نار لبنان والعراق.

سوريا تكاد تتحول إلى أفغانستان بعد أن اختلط فيها حابل تواطؤ نظام الأسد الدموي المدمر مع «داعش» وحزب الله بنابل خليط جماعات مسلحة تجاوز عددها 1600. يقول مدير الاستخبارات الأميركية جيمس كلابر إن سوريا تحولت إلى ملاذ آمن للمتطرفين من الجماعات الإرهابية، يُقدر عدد أفرادها الخطرين بنحو 26 ألفا، منها جبهة النصرة التي تهدد بتصدير الإرهاب إلى الغرب، في ذات الوقت الذي تغرز هذه الجماعات أنيابها في جسد العرب من دون تمييز بين مدني أو عسكري. وتتمتع بغطاء من فتاوى جاهزة تحاول زج المنطقة في أتون الصراعات الطائفية الجاهلية.

ولكن قتامة هذه الصورة المضرجة بالدم والمشوهة بالخراب يجب ألا تحجب أبصارنا عن تيارات أخرى انبثقت في خضم هذه الأحداث، فإن صراعا جديا عارما تفجر في المنطقة بأسرها حول تشخيص مشكلاتها والبحث الحقيقي عن النظم والأفكار والقيم التي يجب أن تحدد مستقبل العالم العربي. وقد برزت بعض تجليات هذا الصراع في نطاق الدساتير الجديدة والحوارات الإعلامية والمنتديات الاجتماعية، من ضمنها الإلكترونية.

ونتج عن هذا الصراع دستور توافقي في تونس، لحقته حكومة توافقية أيضا. تونس التي هبّت منها رياح التغيير، أصدرت قبل أيام معدودة تحديثا على «برنامج الثورات» الذي نصّبته في العقل العربي قبل أكثر من ثلاثة أعوام حين أصدرت النسخة الأولى من «برنامج الثورات» الذي كان بدائيا ومعطوبا. جاء التحديث على شكل دستور وتغيير أزاح الجهويات والأحزاب الدينية من الحكم، ناصّاً على أن «تونس دولة ذات طبيعة مدنية، مؤسسة على المواطنة، وإرادة الشعب».

صحيح أن هذا الدستور يحتوي أيضا على عبارات فضفاضة قد تسمح لنفس تلك التكتلات السياسية الإسلامية (إذا ما عادت إلى الحكم) بتفسيره لصالح أجندتها المتشددة. ولكن هذا التحديث أوليّ، ومن أبرز ما فيه من مميزات جديدة أنه يعطي المرأة التونسية نصف كراسي البرلمان. ومن مميزاته الأخرى البارزة أنه قابل للتحديث. لنطلق عليه اسم «تونس 2». هذا كله يدعو إلى التفاؤل وإلى التذكر بأن قطار التغيير قد غادر محطته الأولى في العالم العربي.

حملت رياح الثورات العربية قبل ثلاث سنوات عناوين مختلفة، عبر بعضها عن مجرد رغبة شعبية لطي صفحة الاستبداد بشكله الحاكم، وعنوان آخر رفع هدف الحرية بنوعها السياسي وربما الديني أيضا. وضمن هذا الحراك الشعبي والحزبي كانت الضوضاء والصخب يصمّان آذان السامعين، وهنا ظهر عنوان آخر كاد ينجح في أن يسلب الفضاء لنفسه ويفرض نفسه على أنه موجة المستقبل القادمة لا محالة: إنها صحوة إسلامية. وربما صدّق بعض الناس، فأعطى الناخبون بالفعل للإسلاميين السياسيين فرصة الحكم، كما حصل في أكبر بلدان العالم العربي وأهمها، مصر. وأعانت الأحزاب الإسلامية التي تذوقت الحكم مؤقتا الجماهير على رفضها عندما عجزت عن تلبية أساسيات متطلبات الحكم وتوقعات الشعب للتغيير، فاختمرت ونضجت وأينعت حركات التصحيح والتحديث. في ليبيا فازت قوى مدنية على حساب خسارة الأحزاب الدينية. وفي اليمن أيضا يحصل شيء من هذا، وانتفضت مصر، أم الدنيا ورمزية المشرق العربي، وأوصدت أبوابها بوجه التشدد الديني الممنهج، حتى في سوريا قامت فصائل الجيش الحر مؤخرا بمقاتلة المجاميع الإرهابية التي تغلغلت في صفوف المعارضة السورية.

ولكن المشكلات الكبرى التي لا تزال تواجه الجميع أكبر من الحلول المطروحة، ويبقى خطر الانزلاق قائما.

خلقت هذه المرحلة الديناميكية المتقلبة فرصة تاريخية كي تستعيد شعوب، أو نخبة، هذه المنطقة ثقتها بأنها قادرة على مواجهة التحديات وأنها تمتلك القوة لتحديد مستقبلها. لا ينبغي أن تنكفئ الجماهير على نفسها مجترة نظريات «المؤامرات الكونية والصهيونية»، هذا النوع من التفكير هو نفسه «المؤامرة» التي تسلب المواطنين قدرتهم على الفعل والتغيير الإيجابي. هذا هو وقت المشاركة في الدعوة إلى مواجهة المشكلات الداخلية والتحديات الخارجية من أجل نشر وإقرار عقود اجتماعية وقانونية تربط المجتمع بعضه مع بعضه الآخر لرسم المستقبل، لا انتظاره، مستفيدة من تجارب الأمم الأخرى.

هنالك فرصة سانحة للماكينة الفكرية العربية الديناميكية في أن تساهم في إنضاج وتمكين الموجة المدنية في التنافس على بلورة الوعي العربي الذي يستوعب ويقبل مبدأ التنافس العالمي والحاجة إلى رفع مستوى الكفاءة والمهنية في المجتمع. لنبدأ بإطلاق الاسم الصحيح على ما يجري: إنها ثورات مدنية، لخلق مجتمعات عصرية. هذا هو الوقت للدخول في حوار فكري مجتمعي وثقافي وسياسي بين جميع الأطياف في العالم العربي بهدف نشر الوعي والتعددية وثقافة التسامح الديني والحريات المدنية والمساواة الحقيقية للأقليات والمرأة.

هذه المهمة صعبة ويؤكد ذلك تقرير منظمة اليونيسكو الذي صدر قبل أيام بالإشارة إلى أن نصف أطفال الدول العربية ينقصهم مبادئ التعليم الأساسي، وستفقد هذه الأمة مستقبلها إن لم تخلق الآليات اللازمة للبناء والمنافسة.

التحديات جسيمة، ولكن الأهم أن تكون البوصلة صحيحة، وبعد ذلك ستكون مسؤولية المتفقين على هذا العنوان والتشخيص في أن يعملوا معا على الأرض وفي فضاء التواصل كي يأخذوا بيد هذه المنطقة إلى بر الأمان. الطريق طويل وشاق.

* رئيس منظمة فريق العمل الأميركي من أجل فلسطين