الترجمة.. تعريبا

TT

تسرني تعليقات السيدات والسادة القراء على ما يكتب في صفحة الرأي من «الشرق الأوسط». والحق أنني، شخصيا، أفيد منها الفائدة البالغة متى كانت تنبيها إلى خطأ أو إغناء بإضافة تنويرية. إنها في الحالتين معا تشعر بوجود الفاعل المحبب المطلوب الذي يجعل من الكتابة فعلا يتجاوز الفرد ليغدو مشاركة في إنتاج الأفكار، فيكسب الكتابة ذاتها معنى ومذاقا طيبين. وتعليقا على مقالتي في الأسبوع الماضي (أشجان التعريب والترجمة)، كتب السيد طلال خلاف أسطرا، أحبذ إعادة كتابتها، تعميما للفائدة من جهة واستنادا إلى ما اعتبره فيها إضافة تمكنني من مزيد بلورة وتوضيح ما أريده من حديث التعريب والترجمة. يكتب السيد طلال مخاطبا العبد لله: «كما ذكرت، الترجمة لا تكون فقط في التقابل بين منظومتين فكريتين أو حضارتين متمايزتين فقط، بل هي أن يصل التقابل بين بنيتين لغويتين، لكل بنية لغوية تركيبتها الخاصة ونظامها الذي لا يدرك إلا في حدود العناصر التي تكون النظام، فالتعريب والترجمة لا بد أن يراعيا الفروق في الثقافة وما تعنيه الكلمات من معان غير مباشرة تستحق الإشارة والتوضيح».

ذاك هو، حقا، المعيار الصحيح، وتلك هي الغاية المتوخاة التي يلزم لطموح المترجم أن يرتفع إليها. ولعلي أضيف شرطا آخر، لا أعده شرطا كماليا أو تحسينيا - كما يقول علماء أصول الفقه، بل إنني أراه (في مصطلحهم أيضا) شرطا ضروريا: هو أن تفرغ صياغة الترجمة في عبارة عربية تقرها البلاغة العربية ويتقبلها المذاق العربي بقبول حسن - بحيث تبدو كما لو كانت، أصلا، قد كتبت باللغة العربية ووفقا لمقتضياتها النحوية والصرفية والبلاغية. بيد أن جمع هذا الشرط الأخير إلى الشروط المذكورة في الفقرة أعلاه يبدو من قبيل العسير المتعذَّر، لا، بل إنه يقترب من الاستحالة في حقيقة الأمر؛ لجملة أسباب يخبرها، فعلا لا نظرا، من جرّب الخوض في مغامرة نقل كلام إلى اللغة العربية من غير لغة الضاد. ولأمر ما، يقول اللسانيون عن الترجمة إنها «خيانة»، وفي القول المأثور عندهم «من ترجم فقد خان». ولا تعني الخيانة ألبتة التزييف ولا التحري، وإنما هي ترد في معنى أن الترجمة (على شرط ما تمت الإشارة إليه من جهة، وما هو واقع الحال لو أنصفنا، من جهة أخرى) هي في نهاية الأمر «إعادة كتابة»، وفي عبارة أخرى: هي نص جديد لا يكاد يمت بصلة إلى النص الأصلي كما تمت كتابته في اللغة التي تم النقل منها إلى لغة العرب - والشأن كذلك، بطبيعة الحال، بالنسبة لكل اللغات الأخرى أيا ما تكن طواعيتها وقدرتها على التكيف. من ذلك، مثلا، أن من العسير أن يدعي شخص يقبل على القرآن الكريم في محاولة لنقله إلى لغة أخرى، وإنما الأصح أن يقول إنه يترجم «معاني القرآن الكريم»، وكذلك يشير المترجمون الجادون الذين يقدرون جسامة المسؤولية حق قدرها.

يوضح هذا المعنى، بكيفية أخرى، الفيلسوف الفرنسي والعالم الأنثربولوجي الشهير كلود ليفي ستروس في الكثير من الأبحاث، أستحضر منها دراسة له تحت عنوان «كيف تموت الأساطير؟». والغرض عند العالم الفرنسي المذكور هو التدليل على أن حكايات الشعوب تقبل الانتقال من ثقافة إلى أخرى، من حيث مضامينها فحسب، لا من حيث بناؤها اللغوي وما يفيض به هذا الأخير من حمولة معرفية لا شعورية، يستدعي الكشف عنها التوسل بالتحليل اللساني، والغوص خلف حقيقة ما يكمن، أحيانا كثيرة، خلف النعت اللغوي الذي يفيد بوجود خاصية جسمانية أو عاهة أو ما شابه ذلك. وقياسا على ذلك، يمكن الحديث عن أوجه المماثلة بين المثل السائر في اللغة العربية، حيث يستدعي الأمر استحضار الصحراء والبداوة والخيمة ونباح الكلب وقِرى الضيف، وبين غياب هذه المعاني والإحالات الثقافية في مقابل معان ومعان أخرى تلتمس (في المثل المشابه عند الاسكندينافيين مثلا في مرجعيات أخرى، ربما وجب القول فيها إنها تقف على الطرف النقيض «الجبال المكسوة بالثلوج، والبرد القارس»).

الترجمة، من حيث هي انتقال من لغة إلى أخرى من جهة المعاني، تحتمل قدرا ضروريا من التحريف (ومن ثم الخيانة، في المعنى اللساني للكلمة). في حين أن «التعريب»، بما هو جهد يتوخى إفراغ المضامين والمعاني في القول العربي من جهة البلاغة ومقتضياتها في الحقل الثقافي العربي، يستوجب التحريف أو «الخيانة» ضعفين، من أجل «الطلاوة» و«جزالة اللفظ» وما في هذا المعنى. نحن نوجد، إذن، أمام معادلة عسيرة الأطراف، تكون المفاضلة فيها بين «الوفاء» (المتعذَّر، إن لم نقل المستحيل في مقاييس اللسانيين) للنص الأصلي مع «العجمة» وثقل العبارة على الأذن العربية، وتوخي «البيان» وما تستوجبه شروطه. وفي هذا المعني، يحضرنا مثال ما كان لطفي المنفلوطي يقوم به من تعريب لما يوضع بين يديه من نصوص أدبية تنقل من اللغة الفرنسية التي كان يجهلها كلية. لعل القراء من جيلي يستحضرون «الشاعر» و«مجدولين»، فيرون كيف أن أبطال روايات رومانسية من القرن التاسع عشر الميلادي تنطق بما كانت تفيض به من أشجان ومعانٍ نفوسُ الإنسان العربي في عوالم الصحراء العربية قبل الإسلام (الشهامة، المروءة، النجدة، الملأ...)، ومن ثم فإن الحمولة الرومانسية تختفي لتغيب كلية في قاموس المنفلوطي ووجدانه.

أمر آخر أود التنبيه إليه في حديثي عن إشكالات الترجمة والتعريب، وهو ذلك الذي يتعلق بالصلة بين حال اللغة التي يكون الانتقال إليها في مرحلة من المراحل. وحيث إن ما يعنينا، أولا وأساسا، هو أمر اللغة العربية، فنحن نقول في عجالة: إن الكثير من النصوص الإبداعية والفكرية الكبرى التي تم تعريبها في الفترة بين العقدين الأخيرين من القرن الـ19 والعقود الأربعة أو الخمسة الأولى من القرن الماضي تستوجب إعادة نظر شاملة فيها، في جهد عربي تنويري جماعي. نحن في حاجة إلى هذا بالفعل، ولن نكون في ذلك بدعا من الأمم، والأمثلة على ذلك كثيرة متنوعة.