الهروب من الإقليم إلى الأقاليم

TT

يتوزع المطالبون بـ«الإقليم السني في العراق» بين الباحثين عن حل لشعور بمعاناة صعبة، وحالمين بحكم جزء من العراق، وكلا الطرفين بعيد عن فهم أو تفهم المعادلات المختلة والمعطيات الصعبة والظروف المعقدة التي يمر بها العراق، لأنهما لا يمتلكان الكوادر القيادية والعسكرية والأمنية، القادرة على فهم أسلوب وتدابير ومبادئ إدارة الدولة والمؤسسات، رغم أن «ظروف الخلل» أتاحت لبعض الأشخاص فرص شغل مواقع إدارية مهمة في دولة ما بعد 2003. ويتشارك هذان الطرفان في عدوى محاولة الاقتداء بمعطيات إقليم كردستان، في مقارنة مختلة وبعيدة كل البعد عن أي شكل من المقارنات العلمية والواقعية. فالكرد لهم خصوصيات قومية وجغرافية مختلفة كليا، فهم - وفقا لما يؤمنون به - أمة أخرى تبحث عن الاستقلال، وينتشرون على أرض متواصلة معلومة.

وعندما يصطدم دعاة «الإقليم السني» بضعف حجتهم، وبخشية البارزين منهم من إعلان حقيقة موقفهم، يتظاهرون بأنهم يسعون إلى تحويل المحافظات إلى أقاليم وليس لتكوين إقليم واحد، فيتحول موقفهم إلى عملية تهرب وهروب علني من قوة الرفض الشعبي لمعظم عرب العراق، وفي المقدمة منهم المثقفون من السنة والشيعة على حد سواء. وبعد أن ازداد الفهم الشعبي لحقيقة أن الإقليم الطائفي يعني حربا مدمرة طويلة، لبس بعض أصحاب الأقلمة من المغرر بهم، أو ممن تنقصهم الثقافة، أو من طالبي الحكم شخصيا، ثوب تحويل المحافظات إلى أقاليم منفردة، بدعوى توسيع صلاحياتها لضمان العمل اللامركزي، قفزا على واقع الفساد المستشري في بعض المحافظات، بدل المطالبة بتوسيع صلاحيات المحافظات ضمن الحدود المعقولة التي تضمن إشراف الدولة.

التوسع في صلاحيات المحافظات لا يحتاج إلى تغيير الأسماء، فالعبرة ليست بالاسم، بل بالضوابط والقوانين والممارسة. والعراق اليوم بحاجة إلى قوانين جديدة لا تنصف الفقراء وذوي الدخل المحدود فقط، بل تنصف كل العراقيين بمنع طبقات المسؤولين الإداريين من التلاعب بأموالهم، و«فرض» ضمان المحافظة على المال العام واستغلاله بطريقة عادلة ومجدية لتطور البلد، وهذا هو المطلب الأهم، المفترض المناداة به قبل إقرار توسع صلاحيات المحافظات.

المطالبون بتجزئة الأمن وتحويله إلى اختصاصات إقليمية ومناطقية، يثيرون شكوكا كبيرة وحساسية مفرطة لدى الطرف المقابل، فيتسبب دعاة الأقلمة في تحويل مناطقهم إلى ساحات صراع، لم يجن منها غير التخلف والدمار والتشرد والحرمان والخسائر البشرية التي تفوق ما وقع في حروب اعتبرت تاريخية. لذلك، يتوجب توضيح مخاطر الانسياق وراء مثل هذه المطالب، التي تغذيها أطراف خارجية وداخلية لمصالح بعيدة عن أمن العراق ومستقبله.

وقد تبقى المطالب في الأقلمة شمال بغداد وغربها ضمن حدود السيطرة والاحتواء بالممارسات العادلة والمساواة، إلا أن الخطر غير مستبعد من تنامي مشاعر المفاصلة، كرد فعل من مناطق الإنتاج النفطي في الجنوب، مع الإقرار بأن الشعور بوحدة العراق والانتماء العراقي والعربي سطر دروسا مهمة في هذه المناطق، رغم ارتفاع أصوات حزبية وفردية تدعو إلى الفيدرالية انطلاقا من قدرة نفطية هائلة. ويبقى للحكومة المركزية والمعادلات السياسية دور فعال وعملي فيما يفترض القيام به لتعزيز وحدة العراق.

يؤمن العرب بأنهم أمة واحدة، ولم يفشلوا في تحقيق خطوة وحدوية واحدة فحسب، خصوصا الذين ملأوا الدنيا بشعاراتهم الوحدوية البراقة، بل فشلوا في تجاوز خلافاتهم، وبقي مجلس التعاون الخليجي التجربة الوحيدة للتنسيق والتعاون بين دوله. لذلك، ينبغي وصف مشاريع الأقلمة بأنها عملية تفكيك متعاقب ومتصاعد لمقومات الدولة والمجتمع، وتحديدا عندما يكون الصراع الدموي قياسا لواقع فشل السياسيين في إيجاد مناخ مناسب للتخلص من الأزمات التي أوجدوها هم.

القتال والاقتتال في الأنبار، والقلق الكبير من الوضع الأمني في محافظة نينوى ثاني كبرى المحافظات، وتمزق الحال في محافظة ديالى، وتباعد المواقف في محافظة صلاح الدين، وبقاء محافظة كركوك مشروع أزمة مستقبلية خطيرة، وهي محافظات شمال بغداد وغربها ذات الأغلبية السنية، عوامل تتطلب إدراك مخاطر التلاعب في الألفاظ ومحاولات الهرب والتسرب إلى تعميم الأقلمة. فلا سبيل للخلاص غير العمل من أجل تعزيز الشعور بوحدة العراق، واستئناف التواصل بين جنوب بغداد وشماله وغربه، ولا عودة إلى مرحلة خطوط العرض، فتلك مرحلة شاذة كانت لها أسبابها ومعطياتها، ومن الوهم الأكيد أن يحلم طرف ما بتحققها مرة أخرى.