سوريا: خسارة تراث!

TT

لكل مأساة أبعاد خطيرة لا يستشعر بفداحتها إلا متأخرا.. ومع توسع دائرة الدم والدمار والقتل في سوريا بسبب إجرام بشار الأسد بحق شعبه بشكل متوحش لم يعرف العالم مثله من قبل، مع كل هذا الأمر تخرج المآسي وتظهر الكوارث بشكل مخيف. فمع التركيز المطلوب على الثمن الإنساني المتعاظم والهائل، وذلك نتاج مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمشردين واللاجئين والمساجين ودمار المدن والقرى، هناك بعد ثقافي وتراثي واقتصادي بدأت تتضح فداحة خسارته وهول تأثيره السلبي المتوقع.

الحرب على الشعب السوري تهدد سلسلة عظيمة من المهن المميزة والحرف الاستثنائية من الاندثار والانقراض. سوريا كانت دوما مركزا للتميز الحرفي عبر العصور، ولكن الحرب الهمجية من قبل نظام بشار الأسد المجرم ضد شعبه تهدد بأن يحول كل ذلك إلى أطلال وقصص وأساطير من الماضي الجميل. هناك حرف مثل حياكة «الاعتباني» و«القبانة» بكل أشكالها وأنواعها للأقمشة والجوخ، وهي حرفة يتم تطويرها وتعليمها وتوريثها جيلا بعد جيل. ونفس الشيء من الممكن أن يقال عن صناعة وبناء «الحجر» لأساس وزينة المباني والعمارة، فالحجر الدمشقي والحجر الحلبي تحولا إلى ما يشبه البصمة الوراثية للذوق الجميل والحس الفني المميز، وهي طبعا ينطبق عليها الشيء ذاته، ويقال عنها إنها مهنة يتم توارثها جيلا بعد جيل بشكل دقيق ومنظم. وهناك صناعة الخزف التجميلي التي تعنى بالتفاصيل المهمة من تقطيع وقص وصباغة ودهان ورسم، وكلها مواهب غير تقليدية وغير بسيطة.

كما لا يمكن إغفال أعمال الخشب بكل أنواعه وأصنافه وأشكاله، سواء الخاص بالتطعيم مع الصدف أو مع الذهب أو مع القصب أو مع الخزف. وهناك كما هو معروف أساطين الطهي من مشويات وحلويات.

هذه هي مجرد عينات من كنز وثروة فكرية وثقافية وطبعا اقتصادية هائلة، عبارة عن تراث ومجد تراكمي عبر أجيال طويلة من العطاء والإنتاج والإبداع والابتكار والفن. كل ذلك مهدد بالموت مع وفاة الحرفيين أو تهجيرهم أو إصابتهم وعدم إمكانية نقل هذا الفن والمهارة والفكر إلى أجيال جديدة تحفظه وتحميه وتبني عليه كما ينبغي.

الهوية التراثية السورية التي هي في مهب الريح الآن لم تكن ذات فائدة وعوائد على سوريا والسوريين فقط، لكنها كانت جزءا أساسيا وحيويا في كل بيت عربي لأنها كانت عابرة للحدود والبلاد وكانت «جامعا» لها وعنصرا مشتركا. نظام الأسد الذي لم يفرق بين البشر والحجر في تدميره وقتله حتما لم ولن يعي حجم الخسارة الفكرية والثقافية هذه؛ فكيف يكون ذلك وهو يحارب كل رمز حضاري، فتزداد الأدلة والبراهين على هذا النظام المجرم الذي يمحو مدنه وشعبه وهويته وبصمته بشكل تلقائي ونمطي وآلي غير مسبوق، وكأنه ممنهج ومعد منذ القدم لفعل كل ذلك، ويثبت أنه لم يرَ السوريون عدوا لهم في شراسة هذا النظام وجبروته.

سوريا تستغيث بكل صوت وبكل أسلوب وبكل وسيلة.. تنادي لأجل الخلاص عبر كل الأبواب. إنها باختصار أم المآسي وكارثة العصر.