حان وقت «الصف الثاني»

TT

لا جدال في أن ما يختلف عليه اللبنانيون بات أكثر بكثير مما يتفقون عليه. ولا خلاف على أن تبعات هذا الوضع المأساوي يعيشها اللبنانيون أزمة تتبعها أزمة في نظام كرس أفضلية فئة من شعبه على فئة أخرى بحكم الولادة فحسب.. إلى أن صارت هذه «الأفضلية» مبررا «مشروعا» للاستئثار بحقائب وزارية «سيادية».

في ظل نظام بهذا المنحى الفئوي يصعب، إن لم يكن يستحيل، تغذية آمال كاذبة باحتمال توصل اللبنانيين إلى إجماع على الأساسيات التي تبنى الأوطان عليها.

قد يعود فشل النظام اللبناني في التحول إلى مجتمع حاضن لـ«الديمقراطية – التوافقية» التي يدعيها، إلى محاولته جمع نقيضين في معادلة واحدة، فمن بديهيات أي منطق سياسي منعتق من الاعتبارات الطائفية والشعارات الرومانسية، أن التوافقية تلغي الديمقراطية عوض أن تعززها. وبالفعل، إذا جاز رد عقدة تشكيل حكومة الرئيس المكلف تمام سلام إلى عامل رئيسي واحد فهذا العامل يعود، بالدرجة الأولى، إلى تقديم القيمين على «الطبخة الحكومية» الاعتبارات «التوافقية» على آلية اللعبة الديمقراطية الخالصة.

قد يقال: هذا هو لبنان. ولكن «تبويس اللحى» لا يبني نظاما سياسيا قابلا للحياة، وخصوصا إذا كانت مصالح سياسييه الفردية تتداخل، أو تتصادم، مع ولاءاتهم الخارجية وانتماءاتهم المذهبية.

على ضوء هذه الخلفية المعقدة لطبيعة العمل السياسي في لبنان يصعب تجاهل مسؤولية الجيل الحالي من سياسييه فيما آلت إليه اللعبة السياسية في بلده. ولولا استمرار تحرك عدد صغير من القياديين في ضوء مقاربة واقعية للمصلحة اللبنانية العامة لصح إقران إفلاس النظام بإفلاس الطبقة السياسية بأكملها.

أما لمخرج ممكن من هذه الحلقة المفرغة؟

قد يكون المخرج صعبا، ولكن لا بد له من أن ينطلق من مطالبة المثقفين من كل الطوائف اللبنانية – كي لا نقول النخبة – بأن تتحمل منذ الآن مسؤولية تنشئة قيادات سياسية بديلة للقيادات المستهلكة، أي إبراز شريحة من السياسيين الجدد الممكن تسميتهم قادة «الصف الثاني»، لكي يصبحوا مؤهلين لقيادة بلدهم وفق متطلبات عصر يطغى عليه عاملا التخطيط والإدارة، اللذان يفتقدهما معظم أعضاء الطاقم السياسي في لبنان.

نظام لبنان الديمقراطي، على هشاشته، ما زال يتيح لأبنائه مبدأ الاختيار الحر لسياسييه على أساس الاقتراع بالأكثرية. ولكن هذا الاختيار، رغم سهولته النظرية، يجب أن ينطلق من «تمرد» مجموعة من المثقفين، من كل الطوائف، على الهرمية السلالية التي يرثونها عن السياسيين الممتهنين، والتي تسهم في استمرارية مفاهيمهم التقليدية للعمل السياسي عبر إبقائها «وديعة عائلية» لدى الأبناء والأحفاد أيضا.

حان الوقت لأن يلعب سياسيو «الصف الثاني» في لبنان دورا أكبر على ساحته السياسية، وأن يشكلوا في الانتخابات النيابية المقبلة، رأس حربة حركة جديدة تنادي بما سبق أن نادى به السياسي الفرنسي بيار بوجاد في الانتخابات الفرنسية عام 1956: «أخرجوا الخارجين» (من المجلس النيابي المنتهية ولايته). آنذاك لاقت دعوته تأييد نحو 12 في المائة من الناخبين الفرنسيين ومكنته من إيصال 52 نائبا إلى برلمان الجمهورية الرابعة في فرنسا.

رغم شعبويته الغوغائية ويمينيته المتطرفة، يصح استيحاء حركة بوجاد – كظاهرة سياسية ممكنة التحقيق - في تشكيل تيار سياسي في لبنان يدين تقصير البرلمان (الممدد له) على كل الصعد تقريبا وليس فقط على صعيد تشكيل الحكومة.. وربما التمهيد لقيام جمهورية جديدة تتيح للمثقفين لعب دور أكثر تأثيرا في الشأن اللبناني. قد تبدو أي دعوة لتقليص دور القوى السياسية الناشطة حاليا في لبنان خارج أوانها، والأرجح خارج زمانها أيضا. ولكن ظاهرة انحلال الدولة اللبنانية يجب أن تشكل حافزا، ومناسبة مواتية في الوقت نفسه، لإعادة تأهيل الجسم السياسي اللبناني ومحاولة تخليصه من التطبع بطابع الأشخاص لا الجماعات أو الأحزاب.. أو حتى الرأي العام.