المحروسة.. حُبلى...

TT

القاهرة ذات الثلاثة آلاف مئذنة متوترة، تختلط لدى سكانها عناصر التضحية بالفشل ووردية الأحلام بتواضع النتائج، هنا جملة انطباعات بعد زيارتي الأخيرة لمصر في وقت عصيب، ربما صادفت آخر شهور الحمل. الكثيرون داخل مصر وخارجها ينتظرون المولود، قضيت جملة من الأيام السابقة في القاهرة، التقيت بأصدقاء قُدم وتعرفت على أصدقاء جُدد، كنت مترددا في الزيارة، ووجدت بعد دخولها أنها آمنة نسبيا إلا من الاختناق المروري الذي زادته إجراءات التأمين الشُرطي للمناطق الحساسة اختناقا. شاهدت أيضا القلق في عيون أهل القاهرة، وأيضا الأمل الذي يتوقعون. في زيارة القاهرة المتابع يحتار بين منهجين في الكتابة عنها، إما أن يذهب إلى الكليات والجوامع، ويحاول شرح مكنونها، وإما أن يغرق في الجزئيات وهي كثيرة ومتشعبة ومغرية في الحديث. قررت أن أختار منهج الكليات، لعل القارئ يرى بعض الجزئيات من خلال اختلاف الألوان.

الصورة الكبيرة بها عدد من الألوان الواضحة، اللون الأكثر وضوحا الرئيس القادم، صورة عبد الفتاح السيسي تغمر أعمدة الشوارع والكباري فيما أسر لي صديق أنه «الهوس بالسيسي». إنه رجل مصر القادم، الأغلبية سوف تذهب إلى انتخابه لأنها ببساطة تبحث عن استقرار، بصرف النظر عن التفاصيل، لأن العسكرية المصرية في نظرهم هي أهم مؤسسات الانصهار المجتمعي، وهي ربما الوحيدة المتماسكة، ويستدعي الشارع المصري هنا من التاريخ الحديث عبد الناصر، ومن التاريخ القديم جدا بدر الدين الجمالي، أمير الجيوش الذي أعاد إلى مصر استقرارها قبل ألف عام بعد أزمة طاحنة! ولا يخفي محدثك أن السيسي من أبناء الجمالية المسماة باسم ذلك القائد التاريخي!

والنخب من جهة أخرى تقبل بالسيسي بشروط، منها شروط تكتيكية، ومنها شروط استراتيجية، تقول بعض النخب في التكتيك: لا بد له من منافس معقول في الانتخابات القادمة، حتى تظهر الانتخابات الرئاسية «تنافسية» لا «تزكوية» حتى يحتفظ القادم بشيء من الصدقية، كما أن الجمهورية المصرية الثانية يجب أن تختلف عن الأولى في الشكل والمضمون، حتى لو جاء الرئيس من العسكر، وتستطرد في وجوب أن يُنتج السيسي نظاما ثالثا ليس مباركيا ولا إخوانيا يحقق أهداف الثورة! وهنا تثور بعض المخاوف، وهي أن بعض «المتسلقين» من النظامين السابقين مصممون على التقرب منه ومعسكره، بل بعضهم من الأسماء السابقة المعروفة، يدعي قربا بالسيسي، بعض من هؤلاء يثير الشكوك لدى النخب الشبابية، فبهولاء يمكن إعادة شكل جديد من الأنظمة السابقة.

في الاستراتيجية تقول بعض النخب نحن نعرف أنه «بطل» لأنه خلص الناس من كابوس، ولكن ذلك ليس مؤشرا أن يكون رئيسا يحقق مطالب المرحلة، حيث الأخيرة (الرئاسة) تحتاج إلى برنامج واضح المعالم، وإلى رؤية مستقبلية، وإلى فريق تنفيذي كفؤ، وكل ذلك لم تتبين معالمه بعد!

من الكليات أيضا يبرز عنوان كبير ملخصه «إصلاحات اقتصاد»، هو اللون الثاني البارز في الصورة، فمصر بلد غني بالموارد الإنسانية والطبيعية، ولكنها فقيرة في الإدارة والرؤية، وثقيلة في عدد السكان. على الرغم من قصور نظام مبارك، فإنه رسم لمصر رؤية تعتمد على تنمية مرتفعة النسب، وترتكن إلى رجال الأعمال، ومن ثم كان متوقعا أن تصل ثمار تلك التنمية بعد فترة إلى المحرومين! تلك الرؤية قد تكون مقبولة نظريا، ولكنها طبقت بتعسف نتيجة شراهة طبقة مستغلة نمت كالفطر حول نظام مبارك الهرم مجللة بالفساد.

الوضع الاقتصادي المصري هو الأهم في الأولويات، قال زميل مصري اشترك معي في لقاء مقفل في جريدة «الأهرام»: يجب على مصر القادمة أن تقول كفى للمساعدات، مرحبا بالشراكات! تلك فكرة صائبة، وحتى تتم الشراكة بنجاح، لا بد من إصلاح إداري ضخم وعميق، يضع أمام عينه استئصال ما أمكن من بؤر الفساد، ويدرس تجارب دول في أوروبا الشرقية أو جنوب شرقي آسيا أو حتى تركيا، التي كان أساس نهضتها «الإصلاح الإداري العميق». خريطة العنف المشاهد في مصر تنطبق على خريطة كل من الفقر والجهل، في الاستفتاء على الدستور الأخير، أقل نسب الإقبال عليه كانت في مناطق الفقر والجهل التي أيضا تتبنى العنف! انتشالها اقتصاديا أول طريق نجاح التغيير.

اللون الثالث البارز في الصورة هو في مجمله ما يمكن أن يطلق عليه «أزمة الهوية»، وقد كنت أتجول في وسط القاهرة الجمعة قبل الماضي، فلم أفاجأ بصفوف المصطفين الطويلة لصلاة الجمعة في الشوارع، ما إن أذن للصلاة. فك المتاجرة بالدين سياسيا عن السياسة هو أمر يحتاج إلى جراح اجتماعي ماهر حتى يمكن تخليص عنوان مهم اسمه «التدين السياسي» من العمل السياسي في مصر. لا جدل أن المصريين شعب متدين، حقيقة كحقيقة وجود نهر النيل، بل هو شعب قدم للإنسانية «التوحيد».

في ظروف ما بعد الحرب الأولى وسقوط الخلافة نشأت أفكار الاستخدام السياسي للدين، كان الإخوان جزءا منها ولم يكونوا كلها، فقد ظهر على السطح ألوان مختلفة من تعانق الدين بالسياسة. المعضلة كيف يمكن للجمهورية الثانية، بعد مواقف ضبابية وعدم وضوح علمي للفصل بين التدين والعمل السياسي طوال الجمهورية الأولى، كيف لها أن تفصل هذا عن ذاك؟

القضية ليست سهلة. قد تقع الجمهورية الثانية في أخطاء الجمهورية الأولى، في «المداهنة» التي انتهت في عصر مبارك بالمهادنة. لقد جر ذلك على مصر وعلى غيرها من البلدان الكثير من المآسي الإنسانية والوطنية وحتى الشخصية. التخوف من أن تقع الجمهورية الثانية في أثناء خوفها من اتهام «معاداة الدين» في سعيها لمحاربة الإخوان، أن تقع في «مزايدة» دينية تتغذى عليها بعد حين جماعات أخرى، تلك المزايدة يمكن أن ترسخ في الإعلام وفي مناهج التعليم! والمطلوب موقف فكري شجاع يعمق، من خلال تطبيق حصيف وواعٍ، ما قرره الدستور الجديد من فصل العمل السياسي عن الثوب الديني! قلت تحتاج إلى جراح فكري أو كونسولتو فكرية تحمل إلى الواقع مبدأ «لا ضرر ولا ضرار». طبيعة العمل السياسي العربي، وربما العالمي، المستند إلى الفكر الديني، أنه تذكر كثيرا فقه الفرائض، وتجاوز أو نسي أو تجاهل فقه الضرورات والمآلات، وكان ذلك جزءا من مقتل تجربة حكم سنة أولى إخوان في مصر!

سوف نتعرف على صحة مولود المحروسة بعد فترتين، الأولى انتخاب رئيس الجمهورية، والثانية بعد انتخاب مجلس الشعب، ووضوح طريقة تفكير الإدارة الجديدة ونخبها، وقتها يمكن الحكم على صحة المولود. ادعوا معي أن يكون بصحة جدية حتى يكتب له العمر!

آخر الكلام:

في معرض القاهرة للكتاب التقطت كتاب حمدي قنديل المشوق «عشت مرتين»، يقول إن برنامجه التلفزيوني «أقوال الصحف» في الستينات أوقف، قيل له استرح «شوية»! وعرف بعد ذلك أن سبب الوقف قراءة خبر عن عبد الناصر في آخر البرنامج! ذهب بعدها إلى مكتب عبد الناصر وشرح الموضوع، فقال له سكرتير الرئيس: يقول الرئيس ارجع إلى برنامجك..! في كل العصور هناك من يحاول أن يصنع الفرعون!! حتى دون علمه!!