الإرهاب في «سوتشي»!

TT

العالم يضع يده على قلبه بعد أن أعلنت حركة ولاية «داغستان» الإرهابية عن نيتها استخدام العنف والإرهاب ضد المشاركين في الألعاب الأولمبية في مدينة «سوتشي» الروسية. الألعاب الأولمبية جاءت في الأصل لتلافي العنف بين الأمم والجماعات، بتوفير قدر من المنافسة السلمية من ناحية، وإعطاء فسحة من السلام الإجباري تمتنع ساعتها الحرب والصراع. هكذا كان منطق الهليني الذي بدأ الألعاب الأولمبية منذ زمن بعيد حتى تجدد في العصر الحديث. لم يكن معنى ذلك لا غياب للسياسة، ولا غياب للمواجهات، ولكنها كانت في الماضي أشبه بهدنة مؤقتة، وفي زمن الحرب الباردة كانت فرصة للدعاية حينما طرح المعسكر الشيوعي أن الفوز في الأولمبياد يعكس فوز نظام بأكمله. انهار ذات النظام وانتهت الحرب الباردة، وبات ممكنا أن تكون الألعاب الأولمبية فرصة للمنافسة والإبداع الإنساني، وبعد أن كان يجري مرة واحدة في صيف كل أربع سنوات، صار يجري مرة أخرى في شتاء العام في مكان يسوده الثلج فتزدهر الألعاب الشتوية، التي لا نعرف عنها الكثير في البلاد العربية الصحراوية. وهنا جاءت «سوتشي» لكي تقوم بمهمتها في استضافة الألعاب الشتوية فإذا بالأوضاع الروسية تنعكس عليها بما فيها الحروب الأهلية الصغيرة التي تشنها جماعات «إسلامية» من أنواع شتى في «الولايات» الروسية ذات الأغلبية الإسلامية. وهذه المرة جاء التهديد من داغستان، وكان غريبا أن يكون هناك تهديد، فقد جرت العادة أن يكون عنصر المفاجأة أحد أدوات الإرهاب لتحقيق أكبر تأثير ممكن، وبقي على الروس الانتظار ومعهم الدول المشاركة في الأولمبياد.

ولكن المسألة برمتها تبدو أكثر تعقيدا من مشهد الانتظار المترقب في «سوتشي»، فما يبدو على جبهة عريضة في العالم الآن أن هناك «صحوة» كبيرة للجماعات الإرهابية التي تعمل على غرار «القاعدة» أو أنها تتعامل معها مباشرة، بعد أن بدا هناك تراجعا في حظوظها بعد قتل أسامة بن لادن على يد الأميركيين. وفي وقت من الأوقات شاع أن ما جرى من ثورات «الربيع العربي» قد سبب نكسة للحركات الإرهابية «الإسلامية» لأنها طرحت بدائل أخرى للتغيير في الدول والمجتمعات، غير استخدام العنف تحت رداء الدين في أشكال مزيفة. هذا الطرح ثبت خطؤه، فما يبدو جاريا هو أن تنظيم القاعدة والجماعات المتشبهة بها، أعادت تنظيم نفسها، وبدأت تسير في خطين متوازيين: إعادة التمركز الفعلي والحركة على جبهة عريضة ممتدة من حدود المغرب وشمال مالي وحتى أفغانستان؛ واستغلال الأقليات الإسلامية لتوليد خلايا إرهابية عنيفة وصل بعضها إلى بوسطن بالولايات المتحدة، وها هو يشهر سلاحه مهددا في «سوتشي» الروسية. والحقيقة أن هذه الحركات استفادت كثيرا من ثورات «الربيع العربي» عندما استثمرتها في اتجاهات شتى. فهذه الثورات أضعفت أولا ولا شك الدولة العربية والإسلامية وجعلت عناصر قوتها من الأمن والجيش في حالة رخوة وضعيفة، فسهل الاختراق، وخلق قواعد جديدة للانطلاق، وجرى ذلك بشكل واضح في ليبيا واليمن ومصر، وفي سوريا نجحت في إضعاف قوى الثورة السلمية والديمقراطية حتى أعطت نظام بشار الفاشي فرصة للبقاء. وثانيا أنها أتاحت وجودا في السلطة أو خارجها لجماعة الإخوان المسلمين، وهذه وجدت في جماعات القاعدة وأشباهها سلاحا يمكن استخدامه ضد الجماعات المدنية والديمقراطية، ومن ثم تعاونت معها. وليس سرا على أحد أن جماعة الإخوان المسلمين في مصر عقدت صفقة مع جماعة أنصار بيت المقدس حتى تتوقف عن نسف أنابيب الغاز المصري مقابل الإفراج عن الجماعات الإرهابية في السجون، أو السماح لهم بالعودة إلى مصر، وهو ما كان بداية المشهد القائم على التحالف بينهما الذي نراه الآن في مصر. وثالثا أتاحت هذه الثورات مخزونا هائلا للسلاح المتطور الذي أعطاها دفعة كبيرة من الناحية التسليحية واللوجيستية؛ وكانت ليبيا وسوريا والعراق على وجه التحديد مصدرا للسلاح لم تكن تحلم به هذه الجماعات الإرهابية من قبل.

هذا النطاق الواسع والمخيف للحركات الإرهابية، وغطاءاتها المختلفة من جماعات وشيع أصولية مختلفة، تلقت ضربة كبيرة عندما سقط نظام الإخوان المسلمين في مصر، وعندما قررت جماعات المقاومة السورية أنه لا يمكن التحالف مع جماعات إرهابية مثل «داعش» لإقامة نظام مدني ديمقراطي يقوم في الدولة السورية الموحدة. ولكن هذه المعركة الكبرى بين الإرهاب والدول العربية والإسلامية لا تزال في مراحلها الأولية، وتحتاج إلى تفكير استراتيجي من الطراز الأول لأن المعارك لا تجري في الشوارع والميادين فقط، وإنما في القلوب والعقول قبل ذلك، كما أنها معرضة لنكسات متكررة بسبب القاعدة الاقتصادية والاجتماعية التي تستند إليها. ومع ذلك فإن الفائدة الأولى للمعركة المصرية الدائرة الآن هي أنها شكلت أول إثبات على فشل جماعة «الإخوان» ليس فقط في إدارة الدولة، وإنما في كسب غالبية السكان إلى جانبها، وهي التي ترفع راية الدين ظلما وعدوانا.

الأمر هكذا معقد ومركب ويحتاج إلى جهد إقليمي ودولي للتعامل معه، ومن المتصور أن هناك أشكالا كثيرة للتعاون حاليا بين الأجهزة الأمنية للدول المعنية، ولكن المطلوب أكبر بكثير مما هو جار الآن، سواء كانت المسألة هي التعامل المباشر مع الجماعات الإرهابية، أو التعامل أيضا مع «الإسلام السياسي» من ناحية، والمنابع الاقتصادية والاجتماعية من ناحية أخرى التي يجري فيها التجنيد والتدريب لعناصر تحولها من حالتها الإنسانية إلى حالة متوحشة وغير إنسانية، لا يهمها لا مقتل أطفال أو نساء أو شيوخ، أو حتى نزع القلوب من مواضعها ومضغها أمام عدسات التلفزيون. أتصور أنه لا بد من عمل ينسق حركة المعلومات، ويراقب الحدود، ويجلب أحدث التكنولوجيات المتطورة للتعامل مع الموقف، كما أنه لا يمكن ترك الأمور في العراق وسوريا وليبيا والصومال والسودان تسير على الوتيرة التي تسير عليها والمهددة بقوة لاستقرار وأمن وأمان بقية دول المنطقة، التي نجحت في احتواء وأحيانا هزيمة خلطة التطرف والإرهاب. إن الأمن القومي العربي، والأمن الوطني للدول العربية مهدد بشكل واضح بخطر مروع، لا توجد جذوره عندنا فقط، ولكنه ممتد في دول أخرى فتمد شبكات العداء ضد العرب والمسلمين في دول العالم كلها. ولن يكون تهديد الألعاب الأولمبية في «سوتشي» أولها، كما أنه لن يكون آخرها، وفي يوم من الأيام طرح الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك مقترحا لمؤتمر دولي لمكافحة الإرهاب يعبئ الجهد الدولي ضد الإرهابيين والتطرف، ويضع النظم التي تراقب التمويل والتسليح والتدريب. فهل يوجد الآن من هو على استعداد لتبني هذا الاقتراح؟