قرار ملكي تاريخي .. وقراءات مغلوطة !

TT

قبل أيام كنت ضيفاً على قناة العربية للتعليق على القرار التاريخي لخادم الحرمين الشريفين الذي يستهدف الفكر المتطرف بتنظيماته ومنظريه ومموليه ، والذي جاء شارحاً ومفسراً ومكمّلاً لسابقه ، أعني نظام جرائم الإرهاب وتمويله الصادر بالمرسوم الملكي رقم ( م / 16 ) وتاريخ 24 / 2 / 1435هـ .

السعودية رغم الصورة المغلوطة والمرتبكة بسبب أحداث الحادي من سبتمبر ، إلا أن موقف السعودية من التطرف والإرهاب قديم مع تأسيس الدولة منذ أحداث جهيمان في الثمانينات وما تلاها من بروز الإسلام السياسي لاحقاً فتحوله إلى معارضة ذات طابع سياسي مع حرب الخليج ، إلى ما يشبه الدولة داخل الدولة بعد ذلك إلى ضعفه ما بعد سبتمبر وانتقاله من ملفات الداخل إلى الخارج بعد أن أصاب الإرهاب الداخل السعودي ، وتم الانفصال بين التيارات المسلحة وبين التيارات المتطرفة فكرياً لتصبح الأولى مهاجرة والثانية منظرة أو مبررة أو ممولة أو في أسوء الأحوال مستغلة تضخم التطرف المسلح كورقة ضغط سياسية لتمرير أجندتها ولذلك شواهد كثيرة معروفة تحدثت عنها في غير ما مناسبة .

القرار التاريخي هذه المرة يتميز عن المواقف السابقة التي وقفت الدولة بصرامة تجاه التطرف بأنه يتخذ طابع التشريع ، وهو أقوى أنواع التأثير لأنه لا يتحدث عن الأشخاص أو الأحداث أو الأعيان وإنما عن الأوصاف والمحددات القانونية .

من جهة ثانية تميز القرار بأنه جاء في توقيت هام جداً تعيش فيه المنطقة مرحلة استحقاقات ما بعد الربيع العربي ، وبالتالي خاضت الكثير من التيارات والرموز المحسوبين على تيارات فكرية متطرفة في شؤون خارجية بدعوى النصرة مرة وبحجة الوقوف مع المظلوم عبر بيانات سياسية تحمل صفة “ التدخل السيادي ” وهي أفعال مجرمة قانوناً ، وأصبح هناك التباس لدى كثير من المراقبين حتى أولئك الذين يعرفون مواقف المملكة السابقة تجاه تصريحات بعض الشخصيات في الملف العراقي والسوري وأخيراً اليمني وتأزيم وتثوير هذه الملفات لصالح الانتصار لفصيل سياسي واضح ومحدد وهو الإخوان ، حتى لو تعارض ذلك مع كل المكونات الاجتماعية غير المسيسة وهي الجماهير العريضة من الشعوب المسلمة بل وحتى لو استدعى ذلك الهجوم والتحريض ضد التيارات السلفية التي تملك شرعية أكبر على الأرض ومرجعية لها امتداد تاريخي عريق .

القرار امتاز بأنه صيغ بطريقة قانونية دقيقة فهو علق الأحكام على الأوصاف لا على الأعيان ليستفيد من تخبطات المرحلة التي تعيشها بعض الدول في تحويلها الملفات السياسية إلى ما يشبه الحرب ضد الأقليات وهو وإن كان قد اكتسب صفة التعاطف الشعبي إلا أنه على المدى البعيد قد يحول تلك المجموعات المتطرفة في حال لم تناقش في الهواء الطلق وتبدد حججها إلى أقليات وجماعات سرية ولاحقاً إلى ما يشبه الميليشيات المتطرفة ذات الامتداد الشبكي ، القرار لم يسمي لكنه وضع سياجاً واضحاً حول استهداف الأمن والأفكار التحريضية وهو ما يقطع الطريق على المزايدين الذين يدركون أن المملكة لم ولن تكون دولة بوليسية على غرار نموذج الدولة “ القومية ” التي جربت البعث واليسار وايديولوجيات مختلفة ، ويمكن القول دون تردد أنه لو قدر لفصيل من الإسلام السياسي الحكم في بلد ما وقد شاهدنا ما يحدث في حماس والسودان وأوائل حكم الإخوان في مصر من تصريحات وأفعال ومواقف تشرعن للدولة البوليسية الشمولية أو ما سماه الرئيس المخلوع مرسي “ التضحية بجزء من الشعب ” وهي تشبه إلى حد كبير فكرة “ التترس ” لدى التيارات العنيفة المسلحة .

القرار لا يطال الأفكار بل الأطر التنظيمية والحزبية ولذلك هذه الضجة من محاربي تويتر الذين يريدون إفراغ القرار من محتواه ليست إلا واحدة من ردات الفعل المتكررة على كل قرار من هذا النوع يتم تفسيره بشكل سلبي لمحاولة القفز عليه والضغط باتجاه تحديده بما لا يشمل التيارات التي ينتمون إليها أو يتعاطفون معها ، الإطار التنظيمي هو أشبه بما يكون في البلدان الديمقراطية بحظر الحزب السياسي ، صحيح أن تجربة الأحزاب غير موجودة بالمعنى القانوني لكنها موجودة بسلطة الأمر الواقع ، وما إنكار هذا إلا ضرب من الاستخفاف الذي لا يلائم حساسية المرحلة ، فكلنا يعلم أن العديد من الدول التي عانت من ويلات التنظيمات المتطرفة رغم أنها محظورة إلا أنها كانت ممتدة ومخترقة حتى لبعض مؤسسات الدولة ولا سيما مؤسسة التعليم المحضن التربوي الأهم في بلد وصف بأنه بلد الشباب .

تفسير وشخصنة القرار ولو على طريقة المظلومية والندب والحديث عن المكارثية وذلك عبر إسقاط على أشخاص هو محاولة يائسة لتحجيم أثره الذي بدا واسعاً لدى قطاعات واسعة من الشعب وأيضاً في الخارج ، القرار محل نقاش طويل في العديد من المراكز البحثية وقنوات الأخبار والدوائر المهتمة بظاهرة التطرف ، صحيح أن هناك الكثير مما يقال عن آليات التطبيق ومعايير الوصف إلا أن هذه التفاصيل عادة ما تكون من اختصاص الخبراء في القانون وليست مجالها الهاشتاقات التحريضية .

أعتقد أنها فرصة عظيمة للمراجعة والتصحيح وإيجاد صيغة توافقية مجتمعية قائمة على مبدأ المواطنة وليس الأفكار الأممية العابرة للقارات لا سيما وأن القرار حظي بمباركة أبرز القيادت الشرعية والثقافية والفكرية في البلد .

على المستوى الاستراتيجي للمملكة القرار فرصة واعدة جداً لحسم الجدل حول الارتباك من الموقف السعودي للتطرف فهو خطوة تشريعية مهمة للفصل بين استراتيجية الدولة من جهة و تصرفات الأفراد المنتسبين لها من جهة أخرى بالإضافة إلى تبعات الاستقرار ، تعريض العلاقات الدولية للخطر ، وهو ما يعني ضرورة أن يتم توسيع النقاش في أجواء صحية للقرار وتخصيص مساحات أكبر لتداوله في الإعلام وأروقة الجامعة ونقاشات المهتمين .

[email protected]