من المسؤول عن فتح الأبواب أمام «الإرهاب» في سوريا؟

TT

عندما استمعت أخيرا لتصريح نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، في جنيف، الذي سخف فيه أي كلام عن تنحي رئيسه بشار الأسد، شعرت بإحباط وضيق... ليس من المقداد أو فريقه من مفاوضي النظام، بل من مجتمع دولي يسير قدما في مسار عبثي ودموي سعيا وراء «التسوية السياسية» للأزمة السورية، بعدما أربكت دعاوى «محاربة الإرهاب» الصورة.

أن يقول المقداد ما قاله، وبالنبرة التي جاء فيها، كان طبيعيا جدا بالنسبة للملمين أكثر مني بتاريخه السياسي. وأن نسمع أشياء مماثلة من زميليه بثينة شعبان وعمران الزعبي وباقي الشلة في موضوع «البدء بمحاربة الإرهاب»، أمر مفروغ منه. ولكن الجديد الذي أثار دهشة في أوساط عدة هو التقارير الإعلامية الأميركية عن «جبهة النصرة» إحدى الفصائل الجهادية المتشددة التي تقاتل طغمة الأسد، والدور الإيراني - المباشر أو غير المباشر - في دعمها ورعايتها عبر شخصين يعملان من إيران، اسماهما الحركيان «جعفر «الأوزبكي» و«ياسين السوري».

مؤكد أن تقارير من هذا النوع لا يجوز التعامل معها كقرائن. وحتما، لا يمكن اعتبارها مسألة محسومة وقاطعة. وبالفعل، سارع عدد من المتعاطفين مع «جبهة النصرة» إلى استنكار التقارير واعتبارها «مؤامرة أميركية» للنيل من «الجبهة» لخدمة «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، وذلك «بعد انفضاح أمر (داعش)» وانكشاف دورها كطابور خامس يقاتل الثورة الشعبية السورية ويسيء إليها، وملاحظة إحجام طيران النظام عن استهداف مواقعها ومناطق سيطرتها... بينما يمطر المدنيين والثوار الحقيقيين في طول سوريا وعرضها بالبراميل المتفجرة صباح مساء!

مشاعر انفعالية من هذا النوع مفهومة، وفي حالات ما تعطي الخطأ في تحليل الأمور «أسبابا تخفيفية»، لكنها من الناحية المنطقية تظل غير قابلة للتبرير.

أقول هذا، لأنه... صحيح أن «داعش» غدت مكشوفة، بتجاوزاتها الفظيعة - والمشبوهة في آن - مما أثر على كل فصائل الثورة السورية بمختلف أطيافها... وعلى رأسها «الجبهة الإسلامية» وما تبقى من «الجيش الحر»، لكن صحيح أيضا أن «جبهة النصرة» بايعت تنظيم القاعدة علانية، وفي المقابل، أعلن أيمن الظواهري، زعيم «القاعدة»، تأييده لها صراحة في الصراع السوري المسلح، وبالذات، في وجه «داعش».

هذا واقع لم تنكره «النصرة»، ولم تتراجع عنه حتى اللحظة، كما لم يتحرج الظواهري في تأكيد العلاقة.

وبناء عليه، كيف يمكن لأي شخص لديه الحد الأدنى من المنطق أن يتوقع من المجتمع الدولي - الذي هو أصلا في حالة هروب دائم من أداء واجباته الأخلاقية والإنسانية والسياسية – أن يتعاطف مع الثورة السورية... عندما يكون تنظيم منتسب إلى «القاعدة» أحد أبرز تنظيمات الثوار؟! كيف يمكن لأي رجل دولة في حالة كهذه أن يواجه فلاديمير بوتين «قيصر» روسيا الجديد بالحقائق المرة على الأرض، عندما توفر تنظيمات مثل «داعش» - وربما «النصرة» أيضا – «ورقة التوت» لبوتين وأمثاله لكي يستروا بها عورات سياسات إمبريالية تغذيها نعرات دينية وطائفية متعصبة... في حرب مفتوحة ضد من يصفونهم بالجماعات «التكفيرية» و«الإرهابية»؟!

مع هذا، لا بد من القول إن ما يتكشف لنا من معطيات عن رعاية النظام السوري والنظام الإيراني وحليفهما العراقي، وربما أيضا أجهزة أمنية روسية اخترقت زمرا وجماعات «جهادية» من القوقاز وآسيا الوسطى، يشكل فقط وجها واحدا من وجهي الأزمة السورية... أما الوجه الثاني، فوجه أميركي بامتياز. وقبل يومين أو ثلاثة، نشرت «النيويورك تايمز» مقالة رصينة للدكتور ستيفن سيستانوفيتش، الأكاديمي والخبير الاستراتيجي والمستشار السابق في إدارة رونالد ريغان، انتقد فيها بموضوعية وبدراسة تاريخية مقارنة وموجزة سياسة الانكفاء أو «عصر النفقات» التي غدت جوهر استراتيجية الرئيس الأميركي باراك أوباما في فترة رئاسته الثانية.

المقالة طويلة، وفيها مسحة أكاديمية تعرض لحالات مشابهة بصورة لسياسات رؤساء أميركيين اختاروا التركيز على «عصر النفقات» (retrenchment) بعد حروب مكلفة أو مغامرات سياسو - عسكرية أدت إلى تغيير مزاج الناخب الأميركي.

ومما يقوله سيستانوفيتش أن الرؤساء السابقين (دوايت) آيزنهاور و(ريتشارد) نيكسون و(جورج) بوش الأب «لاقوا صعوبة في إدارة سياسة خفض الإنفاق على استراتيجيات المواجهة التي كانت صعبة، وهذا ما ينتظر أوباما أيضا... ومع أن أوباما لن يتخلى عن عصر النفقات، ولن يتوجب عليه ذلك، ومع أن الأسس المحلية (الداخلية) للقوة الأميركية تحتاج للعناية، لكن عليه أن يهتم بالأسس الدولية أيضا». ويتابع: «لكن الرئيس ومستشاريه يفعلون نقيض ذلك أحيانا. فهم عندما يتكلمون عن رغبتهم في تقليص اهتمامهم بالشرق الأوسط، ينسفون الهدفين الأهم للرئيس نفسه: الصفقة النووية مع إيران، والتسوية الإسرائيلية - الفلسطينية. هذان الهدفان يستحيل تحقيقهما عندما يتوقع الحلفاء والخصوم على السواء دورا أميركيا نشطا في المنطقة».

هذا الكلام يتناول «ثغرة» في سياسة باراك أوباما، وهي إذا كانت في نظرة خبير استراتيجي متخصص بشؤون الأمن القومي والاتحاد السوفياتي السابق مجرد «ثغرة» ذات طابع سياسي يقوم على الأولويات (Priorities)، فإنها ليست أبدا أقل من «كارثة» بالنسبة للمتأثرين بالسياسة الأميركية الشرق أوسطية والمتضررين منها، سواء عندما تجنح إلى الحروب الاستباقية العبثية... أو تنكفئ وتتراجع حيث المطلوب الحزم والصرامة... ولو من الحاجة إلى استخدام القوة فعليا.

قد يفهم بعضهم من هذا حث أميركا على العنف، مع أن أميركا لها ما لها من الأخطاء المتراكمة في التعامل مع مشاكل المنطقة.

لا... ليس هذا هو القصد، وأصلا لا أحد يستطيع أن يملي على أميركا سياساتها، لكن من الأهمية بمكان أخذ حقيقتين في الحساب:

الأولى، أن الساسة الذين يأتون إلى الحكم تحت شعارات أخلاقية، مثل أوباما، أكثر عرضة من غيرهم لأن يحاسبوا على صدقية «أخلاقياتهم». وما يتبين اليوم حتى لقطاع واسع من محبي الرئيس والمتحمسين له، أن سياساته العملية كانت دون خطابياتها الأخلاقية المثالية... بأشواط. والثانية، أن اعتبارات السياسة الأميركية، عبر تاريخها الحديث كقوة عظمى، قامت على ثابت واحد هو «التكلفة». ومن هنا، فليس لنا توقع أي تغيير في واشنطن إلا عندما يقتنع الناخب الأميركي بأن سياسات «سيد البيت الأبيض» غدت «باهظة التكلفة».