لهذا يقوم العاهل الأردني بهذا الدور ويقف الأردن هذا الموقف!

TT

الزيارة التي كان بدأها الملك عبد الله الثاني إلى الولايات المتحدة قبل أيام قليلة، يمكن اعتبارها زيارة مصرية بالدرجة الأولى، هذا بالإضافة إلى أنها زيارة فلسطينية وسورية؛ فالعاهل الأردني، الذي كان أول قائد عربي يصل إلى القاهرة بعد ثورة الثلاثين من يونيو (حزيران) الماضي، بقي يشعر بأن الموقف الأميركي من النظام المصري الجديد، ومن المشير عبد الفتاح السيسي تحديدا، فيه الكثير من الضبابية وفيه الكثير مما هو غير مفهوم ولا يتناسب مع العلاقات التاريخية بين دولتين توطدت علاقاتهما وأصبحتا بمثابة حليفين على مدى الأعوام الماضية منذ أن قطع الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات علاقات بلده بـ«الاتحاد السوفياتي» السابق في بدايات عقد سبعينات القرن الماضي.

صحيح أن الخارجية الأميركية تراجعت عن مواقف سابقة كانت قد اتخذتها بعد ثورة الثلاثين من يونيو الماضي، واعتبرت فيها أن ما جرى انقلاب عسكري ضد الديمقراطية، وصحيح أنها أعلنت أن الإخوان المسلمين «سرقوا» ثورة قام بها غيرهم، لكن، وبصورة عامة، فإن موقف الولايات المتحدة إزاء نظام مصر الجديد بقي تحيط به ضبابية غير مبررة وغير مفهومة، وبقيت واشنطن، وبطرق مختلفة، مباشرة وغير مباشرة، توجه انتقادات لاذعة إلى هذا النظام، وتتهمه بالاعتداء على الحريات العامة وحقوق الإنسان وبالتدخل بطرق وأساليب غير ديمقراطية في الإعلام وفي الحياة الحزبية المصرية.

وكذلك، فإنه صحيح أن الولايات المتحدة استأنفت، بعد انقطاع قصير، بعض مساعداتها الدورية السنوية إلى مصر، لكن بتردد ملاحظ وواضح وبعيدا عن فرضية أن الصديق من المفترض ألا يتخلى، بسبب بعض التعارضات وسوء الفهم، عن صديقه وخاصة عندما يواجه هذا الصديق تحديات جديدة، فالمثل يقول: «الصديق وقت الضيق». وحقيقة، إن من حق المصريين على أميركا ألا تبخل عليهم بالمساعدة التي يستحقونها وبلدهم يواجه هذه الظروف الصعبة التي يواجهها، وتحديدا على صعيد الجوانب الاقتصادية.

ولعل ما لا يدركه صانعو القرار - إنْ في البيت الأبيض وإنْ في الكونغرس الأميركي - أنه لو تأخرت ثورة الثلاثين من يونيو، وأنه لو أن القوات المسلحة المصرية توانت في الاستجابة لرغبة ومناشدات غالبية الشعب المصري وترددت في دعم هذه الثورة، التي لا يلْصق بها تهمة الانقلاب العسكري إلا متجنٍّ أو صاحب ارتباطات تنظيمية بالإخوان المسلمين - لكانت مصر الآن ترزح تحت حكم حزب استبدادي، لا يؤمن لا بالديمقراطية ولا بتداول السلطة، وكان قبل أيام من هذه الحركة الإنقاذية والتصحيحية، المباركة فعلا، قد اتخذ قرارات سرية بالسيطرة على السلك الدبلوماسي كله حتى بما في ذلك وزارة الخارجية، واستكمال السيطرة على الإعلام والحياة السياسية، وإزاحة كل جنرالات الجيش المصري الكبار وكل قادة الأجهزة الأمنية، والبدء بتشكيل نواة، أشرف على تشكيلها خيرت الشاطر، قوامها خمسون ألف عنصر من «شباب» الحركة الإسلامية لإحلالهم رويدا رويدا محل القوات المصرية، التي كانت بداياتها خلال ثورة عرابي باشا في عام 1882 واستمرت على مدى كل هذه العقود الطويلة إلى أن أصبحت بمستوى أهم وأكبر الجيوش العالمية.

والواضح أن أصحاب القرار في الكونغرس الأميركي وفي الإدارة لا يعرفون أن انقلاب الثامن من مارس (آذار) عام 1963 في سوريا الذي جاء بحزب البعث إلى السلطة واستمر بالهيمنة عليها حتى الآن، كان من صنع ثلاثة ضباط من العلويين، هم محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد، بمساندة أربعمائة بعثي مدني فقط، وأن هؤلاء الضباط الثلاثة، بقوا يتصارعون فيما بينهم إلى أن وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه في عام 1970 وأنهم واصلوا تصفية الأحزاب السياسية التي كانت قد رسخت تجربة برلمانية حقيقية منذ عام 1946، وبعد ذلك رغم الانقلابات العسكرية، التي ابتلي بها هذا البلد الذي كان طليعيا وواعدا في المنطقة، والتي بدأت بانقلاب حسني الزعيم في عام 1949 وانتهت بانقلاب أديب الشيشكلي الذي تبعه انقلاب «تقدمي» جر «القطر العربي السوري» إلى وحدة مع مصر في عام 1958، ما لبثت أن انهارت بعد نحو ثلاثة أعوام وثبت أنها غير مدروسة بما فيه الكفاية كما كان يطالب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي كان شديد الحذر في الذهاب إلى هذه الوحدة التي انتهت نهاية مأساوية.

والمؤكد أن العاهل الأردني في الأيام التي أمضاها بواشنطن، قبل الانتقال إلى كاليفورنيا للقاء الرئيس باراك أوباما، الذي من المفترض أن يلتقيه غدا، قد أجرى حوارات مطولة مع وزير الخارجية جون كيري ومع الكثير من الأعضاء القياديين والنافذين ورؤساء اللجان في الكونغرس الأميركي، تركزت أساسا على العلاقات المصرية - الأميركية وتطرقت بالطبع إلى الأزمة السورية وإلى المفاوضات الجارية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فالملك عبد الله الثاني يعتبر أن مصر، بموقعها وبعدد سكانها وبتاريخها الحضاري وبإمكانات شعبها وبدورها الإقليمي والدولي المستمر منذ آلاف السنين، تشكل ركيزة رئيسية وأساسية في هذه المنطقة التي تواجه الآن تحديات فعلية كبيرة وخطيرة.

ثم، وإن المؤكد أيضا أن العاهل الأردني نقل قناعاته هذه إلى كيري وإلى أعضاء الكونغرس ورؤساء لجانه الذين التقاهم، وأنه سينقلها حتما إلى الرئيس باراك أوباما عندما يلتقيه غدا الخميس، وأنه حذر وسيحذر هؤلاء جميعا من أنه إذا خسرت الولايات المتحدة علاقاتها السابقة المتينة بمصر فإنها ستخسر وجودها الفاعل في الشرق الأوسط، وخاصة أن هناك دولا تنتظر على أحر من الجمر لتتحرك بسرعة وتملأ الفراغ الذي سيترتب على استنكاف الأميركيين وعدم مساندتهم هذا البلد العربي المحوري، الذي أدى انشغاله بنفسه في الأعوام الثلاثة الأخيرة إلى كل هذه الفوضى وإلى كل هذا الارتباك الحالي في المنطقة العربية.

لقد كان العاهل الأردني يدرك تمام الإدراك، عندما بادر وبسرعة وقام بزيارته التاريخية آنفة الذكر بعد ثورة الثلاثين من يونيو مباشرة، التي كانت أول زيارة يقوم بها قائد عربي إلى أرض الكنانة بعد هذه الثورة المباركة الميمونة، أن ترك مصر وحدها ستكون عواقبه وخيمة وأنه غير جائز أن يترك هذا البلد ليواجه المؤامرات والمتآمرين وحده. ومن هنا، فإنه على العرب.. العرب كلهم، أن يبادروا إلى ما بادرت إليه المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وأيضا دولة الكويت، وأن يعززوا صمود هذه الدولة العربية، التي إن هي كُبَّتْ - لا سمح الله، فإنه لن تقوم لهذه الأمة، وإلى سنوات مقبلة طويلة، قائمة.

وحقيقة، إن الأردن بقي يعتبر مصر الشقيقة الكبرى، حتى في تلك الحقبة المظلمة عندما كان هناك صراع معسكرات وكانت هناك المهاترات الإذاعية التي سممت العلاقات بين الأخ وأخيه، وإنه بقي يحرص كل الحرص على أنه لا يجوز لأي دولة عربية أن تحاول التطاول على الدور الطليعي لهذا البلد العربي، وإنه من الواجب والضروري ألا يترك الشعب المصري العظيم ليقلع شوكه بنفسه إذا تعرض لوعكة سياسية أو اقتصادية أو داهمته زعزعة داخلية.

وأيضا وللحقيقة، وهذا الكلام يجب أن يقال، إن الأردن شعر في عام العسرة الذي حكم فيه الإخوان المسلمون بأن مصر أصبحت مستهدفة برسالتها وبدورها وبمكانتها العربية والدولية، وأنه - أي الأردن - بات مستهدفا أيضا عندما رفع «إخوان» الإخوان المسلمين في المملكة الأردنية الهاشمية شعار «إننا قادمون»، وذلك بعدما أصبح محمد مرسي رئيسا وغدا الشيخ يوسف القرضاوي يتصرف كتصرف الولي الفقيه وآية الله العظمى في إيران وحيث بدأت القيادة الإخوانية المصرية تستغل إمدادات الغاز المصري إلى الأردن لدفع «الإخوان» الأردنيين لعدم التردد في استغلال الفرصة التي غدت سانحة والتهيئة للانقضاض على الحكم الأردني وفعل ما فعله «الإخوان» في مصر وفي تونس وما كادوا أن يفعلوه في دول عربية أخرى، من بينها ليبيا، ومن بينها أيضا هذه الدويلة الإخوانية البائسة في قطاع غزة.

لقد شعر الأردن، بعد وصول «إخوان» مصر إلى الحكم، بأنه غدا مستهدفا في نظام حكمه وفي كيانه أيضا، ولقد شعر بأن المنطقة العربية مقبلة على مرحلة استبداد حزبي أسوأ من الاستبداد الذي مارسه الحزب الأوحد - إن في العراق، وإن في سوريا، وإن في «جماهيرية» القذافي. ولذلك، فإنه - أي الأردن - قد بادر، وعلى عجل، وبسرعة، إلى الاعتراف بثورة الثلاثين من يونيو، على اعتبار أنها انتشلت أرض الكنانة من مستنقع آسن بدأت تغرق فيه، وأنها أنقذت المنطقة العربية بمعظم دولها من استبداد ديني، لا مثيل له إلا الاستبداد الديني الذي ضرب أوروبا في العصور الوسطى واستمر حتى اندلاع «الثورة الرأسمالية» التنويرية التي أوصلت الأوروبيين إلى أن ينعموا بهذه الديمقراطية الراقية التي ينعمون بها الآن بعد نجاح الثورة الفرنسية العظيمة.