الأمم المتحدة تستطيع.. ويجب أن تفعل أكثر

TT

ما تزال صورة بطاقة تموين صادرة عن وكالة غوث وتشغيل لاجئي فلسطين (أونروا) طرية في الذاكرة. اللون أزرق. حول الإطار مواضع تُثقب بما يشبه الكماشة بعد توزيع كل استحقاق. كلما صدمني هذه الأيام ما يُفجع من مشاهد اللاجئين السوريين وغيرهم، حيثما هم بأي من بقاع عالمنا المنكوب بالفواجع، عندما يتزاحمون للوصول إلى قنينة ماء أو رغيف خبز، تذكرت أننا في قطاع غزة كنا بوضع أفضل. لم نكن نتدافع، بل نقف في طابور منتظم، ننتظر دورنا، فإذا وصل أحدنا منطقة تسلم المؤن، راح يحمل ما تقرره البطاقة لأسرته من دقيق، أرز، سكر، زيت، وأحيانا صُرّة (أو: بقجة) ملابس مستعملة تبرع بها مواطنو دول غنية، وبهدوء ينصرف كل منا إلى بيته، ثم مدرسته إن كان من تلاميذ مدارس الوكالة التي كانت تستقبلنا فترة ما بعد الظهر.

تداعت صورة ذلك الماضي البعيد ذاتها أمام مخيلتي أول من أمس (الثلاثاء 11 الجاري) عندما لفتني خبر مرفق بصورة آنية عن زيارة وداعية أداها الدبلوماسي الإيطالي فيليبو غراندي، المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل لاجئي فلسطين (يشغل الموقع منذ 19 يناير/ كانون الثاني 2010) للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، فوجدتني أتساءل: ترى ألم يكن بوسع هيئة دولية كونتها الأسرة الدولية لتمكين السلام من الانتصار على الحروب، أن تفعل لإنهاء الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي أكثر من مجرد اقتصار دورها على غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين؟

مبدئيا، يتوقف الجواب بـ: «نعم»، أو: «لا» على مدى الاقتناع الذاتي أن بمستطاع هيئة الأمم المتحدة تأدية دور فعال ملزم لأطراف كل صراع يلتهم أرواح البشر في أي مكان من العالم، ويأكل تجاره النافخون في ناره ويشربون على حساب ضحاياه، إنْ بأسلحة القتل والدمار، أو بتسويف التوصل للسلام. ربما أكون واحدا من أقلية ضئيلة على ظهر الكوكب تعتقد أن بوسع الأمم المتحدة ممارسة دور أكثر فعالية لفرض السلام في كل بقاع الأرض، وأنها يجب أن تفعل. إنما واقعيا، سيقال لك إن ذلك غير ممكن، لأن يد هيئة الأمم المتحدة ليست فوق أيدي الكبار، بدءا بالدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، ثم من يدور في أفلاك كل منها، ولذا فإنك تطلب المستحيل.

صحيح، من المستحيل تصوّر الأمين العام للأمم المتحدة يصدر قرارا بوقف إطلاق النار على جبهة ما، فينصاع على الفور قادة الجيوش المتحاربة، كما لو أن بوسع السيد بان كي مون، مثلا، عزل القائد العام للقوات المسلحة لأصغر دول العالم مساحة وأقلها عتادا. كلا، تلك صورة تبدو أقرب إلى الرسم الكاريكاتيري، منها إلى أي واقع عملي، فضلا عن أن ميثاق الأمم المتحدة لا يقره أيضا.

لكن ذلك المستحيل لا يلغي إمكانية دور ذي فعالية أكثر للهيئة الدولية بغرض التقريب بين أطراف متنازعة، ثم مساعدتها على حسم مواقفها إزاء جوانب معقدة، وتزداد تعقيدا مع تراكم السنين.

على سبيل المثال، كان بند حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وما يزال وسيبقى، أحد الجوانب بالغة الحساسية والتعقيد في كل جولة مفاوضات. هناك قرارات للأمم المتحدة تؤكد حق عودة النازحين من بيوتهم بسبب أي حرب، لكنها لا تستطيع تنفيذ قراراتها تلك. في الحالة الإسرائيلية - الفلسطينية، ولأن الخلاف حول هذا البند عطّل إمكانية التوصل للسلام، تستطيع الأمم المتحدة الإسهام بجَسْر المسافة عبر اقتراح أفكار عملية عدة، لعل أولها المبادرة إلى إجراء مسح دقيق لأعداد اللاجئين الفلسطينيين الذين ينطبق عليهم حق العودة، ثم التقدم خطوة بتنظيم استفتاء بين أولئك حيثما وجدوا، يجيب عن السؤال التالي: هل ترغب بالعودة؟ نعم/ لا؟

على موقعها الرسمي، تقول أونروا:

WE PROVIDE ASSISTANCE AND PROTECTION FOR SOME 5 MILLION PALESTINE REFUGEES

وترجمة ذلك: «نحن نقدم المساعدة، الحماية، والمناصرة لنحو خمسة ملايين لاجئ فلسطيني».

كم من هؤلاء ينطبق عليه تعريف «لاجئ»؟ الإجابة على الموقع أيضا:

Palestine refugees are defined as «persons whose normal place of residence was Palestine during the period 1 June 1946 to 15 May 1948, and who lost both home and means of livelihood as a result of the 1948 conflict».

وترجمة ذلك: «اللاجئ الفلسطيني هو الشخص الذي كان يقيم في فلسطين خلال الفترة من أول يونيو (حزيران) 1946 حتى 15 مايو (أيار) 1948 والذي فقد بيته ومورد رزقه نتيجة حرب 1948».

كم من هؤلاء وأولادهم متمسكون بحق العودة؟ الإجابة الدقيقة يمكن الحصول عليها من استفتاء قانوني تجريه الأمم المتحدة، تموله الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وتعين على تنظيمه الدول المضيفة، بحيث تعين نتيجته الدقيقة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على وضع حل عملي لأحد أكثر بنود التفاوض تعقيدا.

في أول الأمر وآخره، تستطيع الأمم المتحدة أن تسهم بدور أكثر فعالية لأن التوصل للسلام ممكن، وإنهاء أي صراع متاح، إنما فقط عندما يقرر من بأيديهم مصائر الشعوب أن «كفى تعني كفى». تجارب الستين عاما الماضية تؤكد فشل أي وسيط من قبل في فرض حل على أي من الطرفين، الفلسطيني أو الإسرائيلي، وهو على الأرجح، وللأسف، ما ينتظر مساعي جون كيري أيضا. لكن النهر يجري، لن يتوقف، وفي انتظار أن تقرر أحصنة الصراع أن الوقت قد حان للشرب من كأس السلام، ليس بوسع أحد أن يجبر أيا منها على ذلك. أما الأغلبية الراغبة فعلا بالتعايش والمستقبل الآمن، فليس أمامها سوى أن تصبر.. وتأمل.