نعمة الاعتدال لمن يحكم

TT

اختصر وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي أنور قرقاش في إطلالة فضائية (العربية - 7-2-2014) ما يعنيه التغيير الإيجابي الحاصل في مصر بعبارة «مصر معتدلة.. عالم عربي معتدل».

ومن جانبي كمتابع للشأن المصري على مدى أربعة عقود أقول إنه من أجل هذا التوجه نحو الاعتدال يأتي هذا الالتفاف حول الظاهرة التي يمثلها المشير عبد الفتاح السيسي، وهو التفاف متعدد الدوافع، إلا أنه يأتي من حاجة المصريين إلى استقرار تستعيد الدولة العربية الكبرى، في ظل عهد يحظى بالشرعية الشعبية المدنية والشرعية العسكرية بفعل الانضباط بنسبة عالية، مكانتها ودورها. وهذه الشرعية المزدوجة تحققت بنسبة عالية للمرة الأولى في تاريخ مصر الجمهورية منذ 23 يوليو (تموز) 1952. ونقول ذلك على أساس أن «الضباط الأحرار» قاموا بقيادة البكباشي جمال عبد الناصر بـ«ثورة 23 يوليو» من دون أن يضمنوا سلفا القاعدة الشعبية، ومن أجل ذلك طغت الممارسات الأمنية والاستخباراتية على عداها وبالذات تجاه الجماعات الإخوانية والشيوعية، مما يطمئن له الناس، فلا يسود الشعور بالحذر وأحيانا بالخوف.

ومع أن تأميم قناة السويس شكَّل تعديلا أساسيا في المشهد المصري وتكونت للنظام الجمهوري الأول في مصر شعبية ملحوظة ازدادت رقعتها اتساعا مع إجراءات ذات طابع اقتصادي واجتماعي، إلا أن ظاهرة الممارسات الأمنية والاستخباراتية ازدادت رسوخا، وهذا جعل مصر دولة غير معتدلة وبات العالم العربي تبعا لذلك عالما غير معتدل لكثرة المغامرات الحزبية الثورية والصراعات على السلطة وممارسة البعض أعتى الإجراءات قساوة من أجل حفاظ طيف على السلطة لا يريد إشراك أطياف من المجتمع معه ولا حتى ترْك هذه الأطياف تمارس حق إبداء الرأي. ولنا في الذي حفلت به الأنظمة العربية الثورية من إجراءات لا مثيل لقساوتها الدليل على ذلك، مع ملاحظة أن الذي تعيشه سوريا البشَّارية على مدى ثلاث سنوات لم يحدث بالبأس والبؤس اللذين يكابد ويلاتهما الشعب السوري، في أنظمة ثورية أخرى؛ ففي العراق الثوري منذ عهد عبد الكريم قاسم حتى عهد صدام حسين حدث قمع واستفراد واحتكار سلطة لكن لم يحدث تجويع وحصار للناس ولا حجب الأدوية والأمصال عن المستشفيات. وفي ليبيا القذافية حدثت إجراءات بالشدة نفسها وحدثت تصفيات ومطاردات وحالات إذلال للكرامات، إلا أنه لم يحدث ما يحدث في نظام بشار من حيث التدمير والقصف وإزهاق أرواح الناس، ومن دون تمييز، بالبراميل المملوءة نفايات قاتلة زود الصديق الروسي حليفه السوري بها مقابل خيرات اقتطعت من أفواه الناس. وحدثت في السودان الثوري ممارسات بطبعة نميرية ليست أقل سوءا من ممارسات أنظمة ثورية أخرى، لكن نميري لم يدمر أحياء في أم درمان ولم يرسل طائرات تقصف تجمعات في بورسودان، كما أن شراكة الحكم الترابي - البشيري ثم البشيري منفردا لم تعتمد أسلوب محاصرة مناطق المنتفضين، ولم تحجب عن النساء والأطفال والمسنين الدواء والغذاء، ولم تترك الجموع هائمة على الوجه تكابد ويلات البرد والجوع.

هذا الذي لم يفعله الذين نشير إليهم إنما لم يفعلوه لأنهم أبقوا على نسبة من الاعتدال في تفكيرهم. والاعتدال يجذب إليه حسنات الضمير والخوف من رب العالمين. وهذه النسبة تشمل من جملة ما تشمله الحقيقة الأساسية، وهي أن الحكم حالة عابرة لم تدُم لمن سبقوا لكي تبقى لمن سيأتون، وأن خير ما يمكن أن يتركه حاكم في الحد الأقصى هو أن يذكر الناس بالخير شمائله وحسْن إدارته للرعية في سنوات حكمه وكيف أنه أضاف إلى البنيان المزيد فلم يدمر ما بناه غيره، وحمى الوطن من المتلاعبين به بدل أن يرهن الإرادة الوطنية لهؤلاء الذين ليسوا من أعراقه ولا من بني قومه. وهو لو كان يعرف معنى الاعتدال وأهمية أن يكون الحاكم معتدلا، لكان تفادى كل هذه الممارسات.

وما يتمناه كل عربي يريد الخير لأمته والطمأنينة لشعوب الأمة هو أن تنجز مصر الأميال المتبقية من مسيرتها نحو الاعتدال، وهي المسيرة التي لقيت من المساندة السعودية والخليجية عموما ما لم يحدث بهذه النخوة من قبل، والمحروسة بالتفاف شعبي - عسكري غير مسبوق من حيث عفوية تكوينه. وعندما يقرر بضعة مدنيين حزبيين وبضعة عسكريين متقاعدين خوض سباق الرئاسة ومن قبل أن يعلن المشير السيسي حامل الشرعية الثنائية؛ الشرعية الشعبية بنسبة عالية والشرعية العسكرية، كون الجيش في مصر قلبا واحدا وليس قلوبا كما في أنظمة أخرى، قرار الترشيح، فهذا مؤشر إلى حالة صحية. ونقول ذلك على أساس أن المشير السيسي بخوض سباق الرئاسة مع آخرين يحقق من جملة ما يراه لمصر قوله عندما افتتحت بورصة الترشح يوم الأحد 9 فبراير (شباط) 2014 أعمالها بإعلان بعض الشخصيات المدنية - الحزبية والعسكرية المتقاعدة عزمها خوض السباق الرئاسي: «ليس هناك من يملك وصاية على الشعب المصري وإرادته الحرة كي يقرر ما يرى ويضع ثقته في من يختاره لحمل هذه الأمانة، وإن مصر تحتاج إلى تكاتف جهود أبنائها والعمل للعبور نحو الأمن والاستقرار والتقدم، وإن القوات المسلحة بكل أفرادها وقياداتها أقسموا على حماية الوطن وأن يكونوا تحت إمرة شعبهم العظيم...».

وما يقوله المشير السيسي هو ما تريده الأمة لمصر، دولة معتدلة تقوم بتصدير الاعتدال الذي هو نعمة لمن يحتاجه. والمحتاجون كثيرون بين المحيط والخليج.