قم للمعلم وفه التبجيلا

TT

«قم للمعلم وفه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا»؛ تذكرت بيت الشعر الشهير بعد توصيات أصدرها مكتب «أوف – ستيد» (Ofsted)، وهو هيئة مستقلة تنسق بين مجلس العموم (برلمان بريطانيا)، وتقدم تقاريره إليها، ووزارة المعارف، لأن المكتب يدير لجان المفتشين المسؤولة عن متابعة مستوى التعليم ومهارات الأطفال في بريطانيا، أي إرسال المفتشين إلى المدارس والمناطق التعليمية.

التوصيات للمفتشين على المدارس هي عدم الاكتفاء بقياس نجاح المعلمين والمعلمات وملاءمة الفصول حجما وشكلا وصحة ومستوى تحصيل التلاميذ، بل بمظهر المعلمين؛ الرجال بالبذلة وربطة العنق وليس الجينز والقميص المفتوح، والمعلمات بالفستان أو الجونلة وليس بالجينز والبوتس.

التوصية رحب بها أولياء الأمور، عندما يصبح المعلم والمعلمة قدوة حسنة للأولاد والبنات.

منذ إلغاء حكومة العمال للزي المدرسي الإجباري في السبعينات وسيطرة ثقافة اليسار الاجتماعية، نادرا ما يصادف التلاميذ نموذج الجنتلمان المحترم.

المدارس الابتدائية تكاد تخلو من المعلمين، فالغالبية الساحقة من المعلمات، وثلث المدارس الابتدائية لا يوجد فيها معلم ذكر واحد، بينما ترتفع نسبتهم بعض الشيء في المدارس الثانوية، والأغلبية معلمات.

ومع ارتفاع نسبة الطلاق إلى 66 في المائة في بعض المناطق (المتوسط العام 45 في المائة) فإن نسبة كبيرة من الصبية في سن المراهقة يشبون بلا أب أو رجل قدوة في الأسرة (محاكم شؤون الأسرة في إنجلترا وإمارة ويلز انحازت في العقود الأخير للزوجة في قضايا الطلاق وكبير القضاة أصدر تقريرا العام الماضي يطالب بتصحيح اللوائح القضائية لأن الانحياز للزوجة بضغوط الحركة النسائية أضر بالصحة النفسية للأولاد المحرومين من قضاء الوقت الطبيعي مع الأب).

النتيجة حرمان التلاميذ الذكور في سن المراهقة من قدوة الرجل المهذب «الجنتلمان» (تصرفا وسلوكا ومظهرا) بعد أن أصبح سلالة مهددة بالانقراض، ليس فقط في المجتمعات الغربية بل على مستوى العالم.

المعلمون الرجال ليس بينهم كثير من نموذج جنتلمان في الملابس والسلوك. المدرسون الذكور هجروا مظهر الجنتلمان إلى الجينز والشورت، بل يستخدمون مفردات لغوية كان جيلي يتلقى ضربات مسطرة المعلم إذا نطق بها.

السبب الحالة النفسية الثقافية التي فرضها المزاج اليساري على المجتمع خاصة الـ«feminism»، الحركة النسائية الراديكالية الهجومية التي لا تكتفي بطلب المساواة بل بإخضاع الرجال.

الجيل القديم الذي أنتمي إليه وتعلم في المدارس الإنجليزية بعد الحرب العالمية الثانية سواء في الإسكندرية أو في إنجلترا شب على أخلاق الجنتلمان (وهي تطوير لأخلاق الفرسان منذ العصور الوسطى)، التي يعتبرها اليسار والحركة النسائية المتطرفة من الإرث الاستعماري، ومعاملة المرأة كمخلوق درجة ثانية. وبالتالي أقلع المعلمون الرجال هنا في إنجلترا عن الاحتذاء بأخلاق الجنتلمان خشية لسان الزميلات اللاذع، والأخطر تقديمهن تقارير ضدهم تتراوح ما بين التفرقة الجنسية (إذا مثلا عاملها بما تتوقعه ليدي من الجيل القديم من جنتلمان)، أو التحرش الجنسي (إذا جاملها بكلمة طيبة تعليقا على حسن اختيارها لملابس).

ومثلا شببت، بتعليمات صارمة من أبي وجدي، رحمهما الله، ومن معلمين في الإسكندرية وإنجلترا أدين لهم بنجاحي الأكاديمي والمهني وحسن أخلاقي، بتصرفات كجنتلمان وبالتضحية دفاعا عن الأطفال وعن النساء وشرفهن.

جيلي تعلم أن يهب واقفا فور دخول أي هانم أو ليدي الغرفة، أو مغادرتها طاولة الطعام (تعلمت الدرس وأنا في الثانية عشرة بصفعة أبي على وجهي ووجه ابن عمتي لانشغالنا عن الوقوف احتراما مثل بقية الرجال عند دخول العمة أنيسة هانم الصالون). ولا تجد رجلا من أبناء جيلي تتحمل أخلاقه أن يظل جالسا في قطار أو ترام وسيدة واقفة، بل يهب بتقديم المقعد لها، ولا يجرؤ على صعود الباص أو الترام قبلها حتى ولو كانت وراءه في الطابور. ولا يمكن لرجل من جيلي أن يدلف من باب في مكان عام قبل سيدة أو مدموزيل، بل يفتح الباب ويظل ممسكا بالمقبض حتى تمر، بل هناك قواعد للسير في الطريق حيث تسير السيدة إلى داخل الرصيف مقاربة للجدار والجنتلمان على الناحية الخارجية ليدافع عنها وقت الخطر؛ وتعبير «النساء والأطفال أولا» عند الإنقاذ والتعرض للخطر عند غرق سفينة أو حريق مثلا يعود لأخلاقيات هذا الجيل.

واليوم تجد رجالا أجسامهم تنافس الخيول قوة، يسابقون سيدة إلى مقعد خال في الترام. والمنظر الأسوأ في مطعم أنك تجد شباب اليوم يتقاسم دفع الفاتورة مع خطيبة أو زميلة دعاها، وهو ما لم ولا يمكن لكرامة رجل من جيلي تقبله حتى ولو كانت الدعوة من أجل بحث أمور العمل وليست مناسبة اجتماعية.

جيل اختلط الأمر عليه بين المساواة بين الجنسين وبين الأخلاق. والأخلاق لا تنفصل عن المظهر سواء للجنتلمان أو السيدة التي تظهر كليدي، وكلاهما قدوة حسنة للتلاميذ والتلميذات.

ولم تكن مدارس مصر (قبل كارثة تحويل وزارة المعارف للتربية والتعليم عام 1958) تختلف عن مدارس إنجلترا في خمس دقائق تفتيش في نهاية اليوم الدراسي للتأكد من حسن مظهر وهندام وملابس التلاميذ قبل خروجهم من باب المدرسة حتى لا يجلبوا العار للمدرسة ويسيئوا لسمعتها. فالأخلاق والسلوك والمظهر كلها مرتبطة شكلا وموضوعا، وهو ما تعلمته من أبي ومن المعلمين. وسواء على مائدة العشاء أمام أبي أو الغداء أمام المعلمين في المدرسة، كان التواء ياقة القميص أو البدلة أو انفكاك ربطة العنق ذنبا لا يغتفر عقابه أمر الانصراف والحرمان من الوجبة.

ولذا عندما كنت أبحث لأصغر الأولاد قبل ثلاثة أعوام (وقتها في التاسعة والسابعة) عن مدرسة داخلية اخترت مدرسة في مقاطعة سومرست تسميات الوظائف فيها تدل على التزامها بالأخلاق التقليدية.

مدرسة تسمي ناظر المدرسة «headmaster» وليس رئيس هيئة التدريس «headteacher» (الناظر ليس مدير المدرسة في التسمية العربية لأن المدير «manager» هو «director» في المدرسة الإنجليزية، وهو منصب آخر يقابل وكيل المدرسة في النظام المصري).

وقد صدق تقديري، فناظر المدرسة صارم لا يتسامح في تدهور المظهر والأخلاق والسلوك، ليوفر ومعلموه - وكلهم من صنف الجنتلمان - قدوة حسنة لكل ولد ليشب «جنتلمان» ينجح في حياته، وأرجو أن يردد يوما «رحم الله أبي باختياره للمدرسة، ورحم ناظر المدرسة الذي أوصلني إلى منصبي اليوم».