ميدالية «جاكي» الذهبية

TT

جلّ ما فعلته جاكي أنها كشفت المستور، ليس مستورها هي الذي لم يحمل أي مفاجأة، بل مستور مجتمع بأسره كان يحتاج لقشة تقصم ظهره. فما إن ظهرت صور التقطت منذ ثلاث سنوات، للرياضية المشاركة في الألعاب الأولمبية الشتوية، ضمن الفريق اللبناني الهزيل الذي يقتصر عليها وزميلها إلياس مخباط، حتى قامت الدنيا ولم تقعد.

لم يعد مهماً إن كانت جاكي ذات مستوى أولمبي وتستحق المشاركة أو إن كانت ستنال ميدالية أم لا، بل اختزلت القضية بمن يؤيد جاكي ومن الذي سيرجمها بحجر. هذه ليست المرة الأولى التي تظهر فيها صور لفتاة لبنانية نصف عارية، لكن لم يسبق لهذا الفعل أن قسم المجتمع بين مؤيد ومعارض على هذا النحو. ما نعرفه عن مجتمعنا أنه أقرب إلى المحافظة، وأدعى للرفض منه إلى القبول. أما وأن الحملة لمناصرة جاكي شمعون جاءت كالسيل الجارف الذي لا يترك مجالا لأخذ أو رد، فهذا لا يجعلنا نصدق أن لبنان أصبح نيوزيلندا ولا جزءا من جمهورية النمسا.

ثمة محافظون صاروا يريدون التعاطف مع جاكي، ومن لم تعنهم يوما حقوق المرأة ها هم يسائلون السياسيين عن عدم إقرار قانون للعنف الأسري لحماية النساء، واهتمامهم بالتحقيق في قضية شخصية لا تهم سوى صاحبتها. فجأة صارت حرية جاكي، وراحتها النفسية وهي تؤدي ألعابها، قضية وطنية، يجب أن ينخرط فيها كل محب لـ«الانفتاح» و«الحرية».

بمناسبة صور جاكي، حمل لواء منال عاصي، التي قتلها زوجها بطنجرة الضغط، من لم يعنه أمرها يوم وفاتها. تذكر الغيارى المغدورة رولا، الضحية الأخرى التي تجاهد جمعية «كفى» وحيدة، منذ أشهر طوال، للاقتصاص من زوجها المبرأ من دمها، دون جدوى.

أين كانت هذه الجحافل الليبرالية - والسؤال هنا ليس موجها للسياسيين الذين لا أمل يرتجى منهم - وأخبار النساء المقتولات على أيدي أزواجهن تتوالى على نشرات الأخبار، في ما لامبالاة من الرأي العام قاتلة.. أم أن الليبرالية لا تنتعش إلا في بعض المناسبات المختارة؟

مجتمع لا يستطيع أن يوصل امرأة إلى البرلمان ما لم تكن وريثة زعيم، ولا يمكنه أن يتحمل قانونا يعاقب رجلا يعتدي على زوجته، لا يستطيع أن يقنعنا بأنه مع حرية جاكي ولا كاثرين.

أمام هذا الفصام حارت الأمم كيف تصنفنا وتشرح مواقفنا من جاكي التي صارت نجمة الصحف الغربية بفضل الحرب اللبنانية التي تستعر حولها. وهكذا كتبت صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بأن جاكي باتت الأشهر في سوتشي، وأن المجتمع اللبناني «معروف بأنه محافظ جدا، ويحب الكليشيهات التي تغذي الفضائح». أما «لوس أنجليس تايمز» فترى العكس تماما أن «لبنان هو الأكثر انفتاحا وتسامحا في المنطقة، وأن المعترضين على جاكي هم بعض من بين الأكثر محافظة». أما والحال هذه فالسخرية هي خير ما يمكن أن يعبر عن تناقضاتنا التي تلامس الجنون، وصدقت «ليبراسيون» وهي تكتب «لبنان منقسم بسبب متزلجة»، و«باري ماتش» التي تحدثت عن «امرأة جننت الأرز».

وفي كل الأحوال فإن فضيلة جاكي، التي لا نعرف شيئا عن مواهبها الرياضية، وهنا تكمن العجيبة، أنها عرّت مجتمعا يتلحف بالقشور، ويتعفف عن اللباب.

ما كان لجاكي أن تكتب في قصتها المطولات، لو أنها أثيرت قبل أعوام ثلاثة. ما كان لها أن تحلم بهذا الهجوم الشرس على وزير الرياضة والشباب فيصل كرامي، لأنه طلب فتح تحقيق بشأنها. ما كانت لتجد من يخبرها، وهي التي ذهبت مغمورة إلى سوتشي بأن الاستعدادات بدأت لاستقبالها في مطار بيروت، لا لأنها جاءت بميدالية ما ترفع رأس لبنان، بل لأن بلد النكايات باتت فيه الجماعات متباعدة، وسلم القيم بلغ فوضوية مريبة.

التطرف في الدفاع عن جاكي لا يختلف عن أي تطرف آخر. نشرت جريدة «لوريان لوجور» اللبنانية مقالة لأحد الكتاب، ظننت وأنا أقرأها أن جاكي قادت، في غفلة منا، ثورة تحررية كبرى، أو أنها قدمت اكتشافا سينقذ نصف البشرية من الفناء. المقالة تقارن بحماسة منقطعة النظير بين بنود لا تنتهي من المفاسد والإحباطات التي منيت بها السياسة اللبنانية و«الإنجازات» الهائلة التي حققتها جاكي بابتسامتها ومهاراتها وهي تمثل بلادها في ربوع روسيا. يقول الكاتب أيضا إن جاكي تمثل لبنان أكثر من «التكفيريين» ومن يسميهم مرتزقة حزب الله، وأكثر من طبقة سياسية لا تملك القدرة على تشكيل حكومة، ويذكر لائحة تطول، تنتهي لصالح جاكي بطبيعة الحال.

غضب اللبنانيين، من واقع سياسي وأمني ممض، له ما يبرره، لكن الخطر يكمن في تبني أساليب من ننتقدهم تطرفا ومبالغة. ألم تتحول جاكي إلى مجرد «كليشيه» والدفاع عنها نوع من «الداعشية الجديدة»؟