«جهاد» خارج المعركة!

TT

يتحدث بحرقة ويسترجع ذكرياته سريعا بألم عندما توجه لأفغانستان تلبية لدعوات الجهاد ضد السوفيات، ويقول: «كانت أكبر خدعة في حياتي، فلم يكن هناك جهاد، بل كانت هناك مصالح وتجاوزات لا علاقة لها بالإسلام أو حتى الأخلاق، وفي النهاية خرجنا نحن المجاهدين خاسرين، وكذلك خرج السوفيات خاسرين أيضا، فالجميع كان خاسرا، والفائز لم يكن موجودا في ساحة المعركة»!

بهذه الكلمات يلخص فنان بحريني شهير تجربته الجهادية في أفغانستان خلال ثمانينات القرن العشرين، وهي كلمات تختزل أوضاعا استراتيجية عاشتها المنطقة، وتحديدا دول مجلس التعاون الخليجي، وما زالت تدفع ثمنها حتى اليوم.

تلك التجربة المريرة، ليس مهما كم شخصا راح ضحيتها، فهؤلاء ذهبوا من دون عودة، ولكن من لم يذهب يتساءل: ما جدوى دعوات الجهاد التي تظهر هنا وهناك، وتكون نتيجتها ظهور جماعات إرهابية سريعا، ثم تنتقل هذه الجماعات لتستهدف البلدان المصدرة لـ«المجاهدين»؟

في البداية، كانت الجماعة المجاهدة جماعة واحدة، ولكنها تحولت لاحقا إلى مجموعة من الجماعات بعد انقسامات آيديولوجية وتنظيمية كبيرة، ورغم كل موجات الاستهداف لهذه الجماعات، فإنه لم يجر القضاء عليها يوما. بل انتشرت في مختلف القارات، تمارس إما أنشطة إرهابية، أو تقوم بعمليات التجنيد بعد نشر آيديولوجياتها المتطرفة، ولا يبدو أن نشاط هذه الجماعات في اتجاه تنازلي، بل هو اتجاه تصاعدي بسبب استغلال بعض القوى الإقليمية والدولية لهذه الجماعات من أجل تحقيق بعض الأجندة.

في الوقت نفسه، ما زالت الإحصاءات غير دقيقة بشأن مشاركة خليجيين على سبيل المثال في البؤر التي أُطلقَ عليها «بؤر الجهاد» من أفغانستان إلى البوسنة، والشيشان، وكوسوفو، والعراق، واليوم سوريا!

إشكالية تورط بعض الشباب الخليجي فيما يسمى «الجهاد» في أصقاع العالم، أنه يعود لاحقا ويحاول نشر فكره المتطرف، بل ويعمل ضد أمن واستقرار بلده الذي نشأ فيه، ويستهدفه إما فكريا أو بعمليات إرهابية. والمتضرر الأكبر هو دول مجلس التعاون الخليجي، التي ما زالت جهودها متركزة أكثر على كيفية احتواء هؤلاء الشباب بعد عودتهم من «الجهاد»، أكثر من اهتمامها بمنعهم والحد من تجنيدهم وتصديرهم لبؤر «الجهاد». وقد تكون التجربة السعودية هي المثال الأنسب والأجدر، خاصة بعد القرارات الأخيرة التي أسهمت في استكمال منظومة مواجهة الإرهاب، والحد من التغرير بالشباب فيما يسمى «الجهاد».

الأنشطة الإرهابية التي تمارس باسم «الجهاد والدين» منذ أكثر من 30 عاما، خلقت حزاما خطيرا بدأ في بؤرة واحدة في أفغانستان، ولكنه سرعان ما امتد عبر إيران ليصل إلى العراق المجاور لدول مجلس التعاون الخليجي، وانتقل بعده إلى سوريا ليتلاقى مع بؤرة صغيرة تحولت إلى بؤرة كبيرة في لبنان. إذن، حزام الإرهاب يبدأ من أفغانستان ويمتد حتى سوريا شمالا ولبنان غربا، ولا يمكن تجاهل بؤرة آخذة بالنمو جنوبا في اليمن بوجود جماعة الحوثيين وغيرهم. وفي ظل دول عربية غير مستقرة بسبب الثورات التي شهدتها منذ ثلاثة أعوام، وظهور جماعات دينية خاسرة من تطورات الأحداث المتسارعة فيها، كما هو الحال بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين، فإنها مرشحة لأن تكون بؤرا جديدة لـ«الجهاد» خلال الفترة المقبلة.

واللافت في هذه العملية أن بلدان مجلس التعاون من الممكن أن تكون محاصرة أكثر فأكثر بهذه الجماعات قريبا، وخاصة أن معظم الجماعات الجهادية لها امتدادات آيديولوجية وتنظيمية داخل بعض هذه الدول، وبإمكانها تفعيلها في أي وقت طبقا للظروف.

غربيا، فإن النظرة تقوم على أن المنطقة باتت غير مستقرة تماما أكثر من ذي قبل، وهي بحاجة إلى إعادة تنظيم من جديد، ولذلك لا نجد اهتماما غربيا كبيرا بمواجهة الجماعات الإرهابية أو الجهادية في دول المنطقة، فالاهتمامات لم تتجاوز القضاء على قيادات «القاعدة» في أفغانستان وباكستان، ونزع الأسلحة الكيماوية من نظام الأسد في دمشق. بل كان هناك تجاهل كبير لدور هذه الجماعات في العراق، وحتى سوريا ولبنان واليمن، وكأن الغرب يرى في دور هذه الجماعات مصالح استراتيجية، يمكنه تحقيقها بشكل غير مباشر ومن دون أن يتورط في الصراعات الطائفية والسياسية العميقة المنتشرة في الشرق الأوسط، وخاصة في ظل تجارب التدخل الفاشلة حتى الآن.

الموجة الجديدة من الإرهاب ستكون مختلفة بعد امتداد حزام الإرهاب إلى شمال أفريقيا في مصر وليبيا، وهي سمة من سمات مرحلة استقرار الفوضى في الشرق الأوسط التي أعقبت الثورات الشعبية في بعض الدول. والخشية أن تكون مضاعفاتها كبيرة على أمن واستقرار دول مجلس التعاون، التي تتسم باستقرار نسبي كبير، مقارنة بدول الجوار، فموجة الإرهاب المقبلة لن تكون تقليدية، ومواجهتها يجب أن تكون غير تقليدية أيضا.

* رئيس تحرير صحيفة «الوطن» البحرينية