كيف رآنا جورجو غوتشي؟

TT

جورجو غوتشي، حاج مسيحي من توسكانا الإيطالية، قام مع ثلة من نبلاء وأتقياء ومغامرين بالحج إلى «الأرض المقدسة» (أو كما هو عنوان رحلته: «holy places») في القرون الوسطى. «هيئة أبوظبي للثقافة والتراث - المجمع الثقافي» طبعت ونشرت كتاب الرحلة ضمن سلسلة «رواد المشرق». الرحلة المثيرة تمت في 1384 ميلاديا (يوافقه بالهجري عام 786هـ) وزار التوسكانيون الإسكندرية والقاهرة وسيناء وغزة وبيت لحم والقدس ونهر الأردن وأريحا ودمشق وبيروت، ثم العودة مجددا عبر البحر إلى الشواطئ الإيطالية. الكتاب ممتع خصوصا مع مقدمة وحواشي الدكتور أحمد إيبيش، وترجمة شيرين إيبيش.

وصف غوتشي للإسكندرية وطبيعة السكان والعمران من أبدع ما يكون، خصوصا لجهة تنوع السكان وتحول ثغر مصر على المتوسط إلى عاصمة للتجارة العالمية، وموئل لأخلاط من البشر؛ ففيها الفينيسي والفلورانسي والفرنسي والإنجليزي واليوناني والمالطي.. إلخ. ثم يصف قوة دولة السلطان «برقوق» مؤسس دولة المماليك البرجية الشراكسة، ويصف القاهرة ويبدي انبهاره بعظمتها وهيبتها، ثم يواصل رحلته بخشوع وجلال عند الأماكن المقدسة لدى المسيحيين. قمة الانبهار عند غوتشي تأتي عند أسوار دمشق، ويبدي حالة من الانمحاء العاطفي أمام بنيانها وسكانها ونظافتها. كذلك وصفه الكنائس والمواضع المقدسة مسيحيا في «المهد» وبيت لحم والقدس. في القدس زار غوتشي مع رفاقه كنيسة وقبر السيدة مريم ووصفهما وصفا دقيقا، ثم يقول: «وعندما يرغب المسيحيون بحضور القداس في الكنيسة المذكورة والصلاة، عليهم أن يذهبوا باكرا قبل الفجر لكي ينتهوا قبل طلوع الشمس، والسبب هو أن عددا من المسلمين والمسلمات - وعدد النساء يفوق الرجال - يدخل لزيارة الصرح، فهم يبجلون السيدة كثيرا ويحترمونها، وخلال زيارتنا الصباحية التقينا بعدد منهن (..)، وتنحني النساء احتراما كما نفعل نحن المسيحيين تماما». (ص68).

الرحلة فيها لمحات جديرة بالتأمل، خاصة أن زمنها كان في عز دولة المماليك، التي وصف صاحبنا التوسكاني (غوتشي) دولة سلطانها «برقوق» بأنها أقوى دولة في المعمورة. لنا عودة لهذه الرحلة الممتعة. غير أن سبب التنويه بها هنا هو هذه الصورة الجميلة عن نساء ورجال المسلمين في القدس، وشدة توقير المسلمات المقدسيات للسيدة مريم آنذاك. قارن هذا بما يجري الآن من انتهاك لكل النواميس والمشتركات التاريخية.. قارن هذا فقط بهذا الخبر:

قام شخص لبناني «مسلم» مؤخرا بتعمد إهانة المقدسات المسيحية بتقبيل تمثال السيدة العذراء، على سبيل التحرش الذكوري. وأثار الأمر ضجة كبرى في لبنان وخارجها. تخيل أن يصل العته والتعصب وتهشيم كل صورة جامعة إلى هذا الحد، وأين؟ في لبنان؟! ما يعني أن الاستنزاف السياسي والإعلامي لرصيد مديد وتاريخ قديم بين مسيحيي ومسلمي هذه المنطقة وصل لدرجة خطيرة.

لست أقول إن تاريخنا، ولا تاريخ الأوروبيين، هو تاريخ التسامح الديني، بل أقول إنه كان ثمة عرف بالتعايش «التلقائي» دون تنظير معمق، وهذا - على تلقائيته - يتعرض الآن لخطر التلاشي.