القيصر يربح حروب الرياضة والسياسة

TT

هل الرياضة أيضا سياسة؟ نعم، هي كذلك، منذ أن حوَّل أدولف هتلر دورة الألعاب الأولمبية المنعقدة في برلين (1936) إلى منبر خطابي له. وشعر الحلفاء بأنهم ارتكبوا خطأ جسيما، عندما وافقوا على إقامة الدورة في ألمانيا. وكان ظنهم أنهم يخففون من غلواء زعيم ألماني طموح إلى إقامة دولة جرمانية في أوروبا.

لكن «الفوهرر» الذي كان أخطب خطباء العالم في ذلك الحين، حول المنبر الرياضي إلى الدعاية للفاشية التي تهدد الديمقراطية. وبالفعل، فقد اجتذب هتلر الملايين. وبينهم عرب معجبون. ما لبث بعضهم أن لجأ إلى ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، ظنا منهم أنها ستنتصر على الحلفاء المخادعين! بل بلغ تأثر العرب بألمانيا الهتلرية إلى مستوى حدا بزعماء شباب إلى تأسيس أحزاب فاشية، في مصر. ولبنان. وسوريا!

فلاديمير بوتين لا قرابة له مع المشعوذ التاريخي راسبوتين الذي سيطر على آخر القياصرة نيقولا الثاني وأسرته. وبوتين لا يشبه هتلر. فليس فاشيا. ولا خطيبا مفوَّها. إنما هو رئيس لديمقراطية موجهة تحكم روسيا اليوم. بتعبير آخر، فبوتين رئيس سلطوي، أشبه بقيصر روسي قديم يملك سلطات وصلاحيات بشار الأسد. وها نحن نكتشف أن بوتين يتميز عن بشار بأنه لاعب جيد ويؤمن بالرياضة، كسياسة وأداة إعلامية ودعائية تجتذب مئات الملايين، من البسطاء والدهماء الذين لا يفهمون ألغاز السياسة وتعقيداتها.

اختار بوتين دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي على البحر الأسود، ليقدمها رمزا لظهور روسيا على المسرح العالمي، كدولة كبرى حديثة. لقد استخدم الرياضة كنافذة عالمية، بلا آيديولوجيا تثير حساسية أو نزاعا. وأنفق بوتين خمسين مليار دولار، لتحقيق هذا الحلم الاستراتيجي/ الشخصي، كرئيس وزعيم يملك حقا شعبية كبيرة في بلده.

غير أن بوتين الذي أشرف على بناء سوتشي كمدينة ملاعب، جوبه بحملة سياسية. إعلامية. دعائية، شنتها أميركا وأوروبا معا، عليه كرئيس، وعلى روسيا كبلد «مُعادٍ» للنظام العالمي القائم. حملة تذكِّر بالحرب الباردة التي أشقت العالم. وأخافته على مدى خمسين سنة. وانتهت بانهيار النظام الشيوعي. وكضابط سياسي/ مخابراتي، اعتبر بوتين الهزيمة بمثابة كارثة وطنية تستحق ثأرا لروسيا التي خسرت في الحرب العالمية 28 مليون إنسان.

استخدم الغرب حيل وألاعيب آلته الدعائية الجبارة، بما في ذلك إغراء المال السياسي والمخابراتي، ومنطق مصالحه السياسية والاقتصادية. وأدبيات حقوق الإنسان المعتادة، في تعيير بوتين. وتشجيع معارضة الشارع الروسي ضده. وإظهار روسيا كبلد فاشل. ولتدمير مشروع سوتشي الرياضي/ السياسي.

تغيَّب أوباما. وأنجيلا ميركل. وفرنسوا هولاند عن المشهد الافتتاحي للدورة. بشر الغرب روسيا بانهيار اقتصادي نتيجة الإنفاق «الباذخ» على مشروع «شخصي» تميز «بسوء التخطيط. والفساد»، في حين يبلغ إجمالي الناتج الوطني الروسي تريليوني دولار فقط. أي أقل من الناتج الوطني لدولة صناعية متوسطة كإيطاليا.

بل يُخَيَّلُ إليّ، من متابعتي حركة هذه الآلة الدعائية الجبارة، أن الغرب كان يتمنى أن تجتاح دورةَ سوتشي عملياتٌ انتحارية. فمنطقة شمال القفقاص التي تمتد من داغستان إلى سوتشي تعجُّ بالجهاديين الذين روَّعوا روسيا بعمليات طالت المدارس في الريف. والمسارح في موسكو. وبلغ عدد القتلى 529 ضحية في العام الماضي وحده، في المنطقة المذكورة.

في الرد، أثبت هذا الضابط السياسي أنه أكثر مهارة سياسية. وأبرع مناورة ومكرا. وأوسع معرفة بكيفية إيقاع الخلاف بين زعماء أميركا وأوروبا الذين أضعفتهم الأزمات المالية المتلاحقة. وبدوا هواة أمام «نجاحات» بوتين. فقد كان افتتاح الأولمبياد نصرا شخصيا له، في دقة التنظيم. وروعة المزج بين رومانسية الفن ورشاقة الحركة الرياضية. وتسخير عشرات الألوف من الحراس. وقوى الأمن. والأسطول. والطائرات. والمدافع المضادة. وأجهزة المراقبة الإلكترونية. وإحاطة أعناق أنصار الفرق (زعران الرياضة) بأطواق تضعهم تحت الملاحقة والمتابعة الدائمة داخل الملاعب وخارجها.

لم ينتحر جهاديو القفقاص. لم يشوهوا روعة الأولمبياد. حملات القمع الروسية، في عهد بوتين، دمرت قدرتهم على القيام بعمليات واسعة. بل لم تعد الشهادة الانتحارية مرغوبة لدى مسلمي القفقاص. باتوا يفضلون النضال السلمي. لكن بوتين ليس في مقدوره منح أنظمة الحكم الذاتي الإسلامية في القفقاص الاستقلال، بعد تفكك الإمبراطورية الروسية الشيوعية، واضطرارها لمنح دول وسط آسيا الاستقلال.

الحرب الباردة الجديدة وصلت بالعلاقة الثنائية بين روسيا وأميركا إلى أدنى مستوى لها، منذ انهيار جدار برلين (1989). الروس يتهمون الغرب بالتدخل في شؤونهم الداخلية، لتفكيك قدرتهم العسكرية. ولتمكين المستثمرين الغربيين من استغلال الثروات الطبيعية الروسية. لكن بوتين استعاد قطاع النفط والغاز وشركات القطاع العام من الطغمة اليهودية التي استدانت من المصارف الغربية، لشرائها من نظام بوريس يلتسين الفاسد، بأبخس الأسعار.

ربح بوتين حرب السياسة. والرياضة. والأولمبياد. ويقبض على زَمَّارة رقبة أوروبا التي هي بأمس الحاجة للغاز والنفط الروسيين. لكن لم يحقق نصرا كاملا على المستوى الاستراتيجي. فقد اجتاح الناتو والاتحاد الأوروبي أوروبا الشرقية. وتقدما إلى حدود أوكرانيا، لينازعا روسيا على استيعاب شريكتها وقريبتها التاريخية.

من سوء حظ سوريا أنها وقعت أسيرة هذه المواجهة الجيوسياسية بين روسيا والغرب. فقد متَّن بوتين علاقة روسيا بإيران. وهو يدعمها لتثبيت قدميها في سوريا ولبنان، عبر دعم وتسليح نظام عميلها السوري. فشل مؤتمر جنيف. وفشلت روسيا وأميركا إلى الآن بإحيائه، مما دفع بوتين ووزيره لافروف إلى تقديم مشروع إلى مجلس الأمن، لإيصال الخدمات الغذائية والإنسانية لألوف المحاصرين وملايين النازحين السوريين. الهدف تجنيب نظام بشار ضربة عسكرية أميركية/ أوروبية، بعد التخاذل والتردد في سوريا ولبنان، تماما كما فعل بوتين بإجبار الأسد على الاستغناء عن أسلحته الكيماوية، لتجنيبه ضربة أميركية كانت محتملة.

ما زالت أميركا ترتكب أخطاء استراتيجية بترددها في المنطقة العربية. فقد سلمت العراق إلى أتباع إيران. وها هي تستعد للانسحاب من أفغانستان، فتسمح بتعزيز نفوذ إيران هناك. وها هي تتخاذل أمام بشار في سوريا. وحسن نصر الله في لبنان. ولا شك أن موقف أوباما سيكون صعبا إلى حد الإحراج، وهو يواجه العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، في الرياض قريبا. السعودية اليوم تتحمل عبء المواجهة القومية العربية للهجمة الإيرانية على عروبة المشرق من جهة. وعبء مكافحة العنف الديني «الجهادي» المتسلل إلى سوريا ولبنان، من جانب آخر.

دخلت مصر المسرح العربي، في اللحظة المناسبة. فقد سدد الجيش المصري بقيادة المشير السيسي ضربة فاصلة للمشروع الأميركي/ التركي، لاعتماد الإسلام السياسي (الإخواني) كنظام حكم جديد في العالم العربي. وبالذات في مصر وتونس. قلب السيسي بذلك مصير المنطقة، بحماية الليبرالية السياسية فيها، بعدما انقلب نظام محمد مرسي عليها.

ماذا فعل السيسي في روسيا؟ الهدف الرسمي الظاهري الحصول على السلاح، وإعادة وصل ما انقطع، بعدما طرد السادات الخبراء الروس قبل أربعين سنة، منحازا إلى أميركا. لكن زيارة السيسي كانت تحديا لأميركا وتأكيدا لاستقلال مصر وسيادتها.

بوتين أيد ترشيح السيسي رئيسا لمصر، نكاية بأميركا. ويستطيع الرئيس الروسي أن يكون ماهرا في لعبة السياسة، إذا دعم السيسي في شق دور عربي لمصر، إلى جانب السعودية، في مواجهتهما التدخل الإقليمي والدولي في المنطقة. ويستطيع السيسي أن يكون في غاية المهارة، إذا تجنب إغراء بوتين له في الاقتراب بمصر، من النظام السوري، بحجة أن بشار أيضا يخوض حربا ضد «الإرهاب» الديني والجهادي.

كعربي وسوري، قلبي مع مصر. وأقول بصوتي المتواضع أمام السيسي، إنه يستطيع أن يكون أملا حقيقيا للعرب، إذا ما اعتمد نظاما يقوم على دولة المؤسسات. وأذكِّر بأن عبد الناصر أضاع نفسه. ومصر. والعرب، عندما عاد إلى اعتماد نظام الشخص/ البطل في لحظة الهزيمة.