الجنادرية: مفهوم الحرب في زمن السلم

TT

كانت في البداية «حشرية» الجنادرية.. ما الذي يدور هناك في أرض الله الواسعة شمسا وحرا؟ ثم أصبحت «غصة» الجنادرية.. الكثير من أتراك الأناضول شاركوا في عرس الصحراء قبل خمس سنوات عندما اختيرت تركيا ضيف شرف على المهرجان، وأنا «العربي» المنسي في جزيرة البحر الكردي وسط الجغرافية التركية ومن «عظام الرقبة» لا يتذكرني أحد.

وكادت تتحول إلى «عقدة» الجنادرية.. لماذا يبذل السعوديون كل هذا الجهد والتعب وينفقون كل هذه المصاريف على دعوة العشرات من المفكرين والكتاب وأصحاب الشأن من داخل المملكة وخارجها، وأي جَمَال سحري يجمعهم وسط هذه الصحراء بشمسها اللاهبة نهارا وبرودتها القارسة ليلا؟

الأوبريت الغنائي واللوحات الاستعراضية في غاية الروعة والاحتشام. العروض كانت باللباس الوطني والشعبي السعودي وباللغة العربية واللهجات الشعبية أحيانا، لكن البعد الدولي في مضمون العروض لم يغب للحظة واحدة، وكان ينقل رسائل المملكة بطابع إنساني حضاري يركز على إرساء السلام في المنطقة العربية والعالم ونصرتها للمستضعفين في كل مكان.

زوار المهرجان كما شاهدنا هم على موعد دائم مع قرية تشهد كل عام تجددا وعطاء يبرز أوجه التراث الشعبي المختلفة.

محاور النشاط الثقافي هذا العام كانت تتضمن عددا من الندوات والمحاضرات وورش العمل عن المملكة والأمن القومي العربي، وحوار مفتوح حول الإسلام السياسي والدولة الوطنية، والدبلوماسية السعودية في العالم.

الذي اكتشفناه هناك مثلا أن أحد نجوم إنجاز هذا العام هو دبلوماسي عمل لسنوات طويلة في التعريف بسياسة بلاده الخارجية والدفاع عنها، فأعطته فرصة نقل تجربته شعرا ونثرا وترجمتها على خشبة المسرح الوطني السعودي، جنبا إلى جنب مع نخبة من الأصوات والفنانين والشعراء وعشرات المبدعين في التعريف بالحضارة والتراث.

مهما بالغنا أحيانا في وصف أمر ما لا يمكن فهمه أو إدراكه إلا بالاقتراب منه وملامسته ومعايشته على أرض الواقع. الجنادرية هي واحدة من هذه التوصيفات.

قد تكون هذه الأرقام تحتاج إلى تحديث طبعا.. جاء الجيش السعودي في المرتبة الثانية بعد مصر في تصنيف الجيوش العربية والأفريقية، والـ27 عالميا بـ233 ألف جندي و977 طائرة حربية وميزانية مخصصة للدفاع تقدر بـ46.2 مليار دولار، بحسب تصنيف دولي وتقديرات قدمها موقع «غلوبا فاير باور» الأميركي.

هكذا هو المشهد على جبهات القتال، لكن ارتداداته في الكثير من بلداننا تكشف أيضا عن حقيقة العيش لعقود طويلة في ظل مفاهيم ومصطلحات لا تفارق مثل الصمود والتصدي والمواجهة والصراع وحروب التحرير ورد العدوان على حساب تحويل هذه المصطلحات إلى حالة حضارية حتى في زمن السلم، فأهملنا حرب التعريف بكنوزنا التاريخية والحضارية والثقافية والتراث واللغة، وربما كان ذلك سببا في تسهيل طريق التآمر والتشتيت والإضعاف.

مسؤولية الجيوش والقوات المسلحة كانت دائما الاستعداد للحرب وحماية الأمن القومي والأهداف الاستراتيجية المفترضة، لكن الفراغ كان دائما يحدث في الجبهات الخلفية، جبهات التعبئة الفكرية الإنسانية الحضارية، وغرس محبة الوطن والأرض واحترام القيادات السياسية.

هذه الأفكار كانت تتزاحم في ذهني، وأنا أغادر قاعة الاحتفالات بعد عرض شائق في الجنادرية.. نسمع بها ونقرأ عنها، لكننا لا نعرف عنها الكثير.

فرسان وفراسة.. هو مشروع الجنادرية. القوات المسلحة السعودية اكتشفت باكرا وحتى قبل العديد من الدول المتحضرة، أن دبلوماسية كسب الرأي العام الدولي في زمن السلم، لا تمر بالضرورة عبر استعراض الوحدات القتالية والأسلحة الحديثة وعرض العضلات، بل عبر توسيع رقعة الأصدقاء وخطاب حضاري جامع عناصره هي أيضا الشعر والإنشاد، واللوحة الفنية في ظلال العلم والسيف.

فرسان يتقدمون نحوك باللباس المدني هذه المرة، يرحبون بك في بلدك الثاني تكتشف أنهم ضباط في الحرس الوطني، دورهم هو إنجاز مهمة المساهمة في مشروع تقديم الصورة التي تليق بالمملكة، والتعريف ببنيتها الثقافية والفكرية والحضارية. نقلة نوعية تجسد لغة التواصل بين التاريخ والحاضر لقرع أبواب المستقبل.. لحظة جمع بين القديم والجديد وبين الموروث والمكتسبات الحديثة.. وعدة أيام تقضيها في رحاب الثقافة والفكر والتفكر.

الجنادرية حققت حتما الأهداف والغايات التي انطلقت من أجلها، وهي تجربة ناجحة على طريق الحوار في الداخل والخارج، وتستحق أن نعممها على جيوشنا، فنحن تأكدنا في الرياض أن الحرب في أوقات السلم تمر عبر إزالة المتاريس وفتح الأبواب ورفع السواتر، لتعريف الآخر بحضارتنا وتراثنا ولغتنا، وهي جبهة مواجهة لا يجوز الاستخفاف بها أو التقليل من شأنها.

الجنادرية هو المهرجان الوطني للتراث والثقافة الذي ينظمه الحرس الوطني سنويا في العاصمة السعودية، لكنه كما رأينا هو الترجمة الحقيقية للحرب الوقائية بطابعها السلمي المتحضر، بعيدا عن القوة والعنف.

لغة الدبلوماسية والقوة على طرفي نقيض، لكن قاسمهما المشترك هو مصطلح الحرب بأكثر من شكل، ويبقى الخيار لنا لتحديد الوسيلة التي نرجحها للتعبير.

«الاحتكاك» بالجنادرية عن قرب هو وحده الذي يرد على تساؤل: لماذا كل هذه النفقات وكل هذه الدعوات وتجييش الحرس الوطني طيلة 29 سنة من دون كلل أو ملل، في مهرجان أسدل ستار العام المنصرم بعد مشاهدة ستة ملايين زائر لمختلف أجنحته؟

الرسالة وصلت.. هو مهرجان لم ينطلق من فراغ ولم يأت تعبيرا عن حالة من الترف، هو مشروع الحرب في زمن السلم من أجل التعريف بالتراث والثقافة والثروات والمكتسبات، وهذا أكثر ما نحتاجه في عالم اليوم.