الأردن من الاحتباس إلى الانسداد!

TT

قضيت أياما في الأردن، التقيت ببعض نخبه، كنت أبحث عن إجابة لسؤال كبير: ترى ماذا يفعل الأردن أمام التطورات القادمة وهي تهب من جهتين ساخنتين في الغرب والشمال؛ الأولى فلسطين اللصيقة بالأردن التصاق الأنف بالوجه، والثانية من سوريا، مع التدفق الإنساني الذي يأتي من هناك، والتطور السياسي المتسارع والمفتوح على المجهول، الذي لا يبدو له نهاية في أفق الحالة المستعصية!

وجدت أن الأردن واقع بين احتباس مَطري يشكو منه، وانسداد سياسي يتحوط له، الانطباع العام أن الأردن، أو على الأقل عاصمته الثقافية والسياسية عمّان، تتوزع نخبته في رؤية القضيتين، فلسطين وسوريا، وبينهما اختلاف واسع في التحليل، كما هو الاختلاف بين درجات الحرارة في الليل والنهار في العاصمة.

لاحظت ثلاثة مسارات تتوزع فيها النخبة الأردنية تجاه القضية السورية، الأول هو نخبة مناصرة للنظام السوري القائم، وتتنوع أسبابها من تقليدية ومستجدة، لن تفاجأ أن هناك من يعتقد حتى اليوم بشعار الممانعة الذي ترفعه سوريا الرسمية، وتبيعه على الحالمين، يتبع ذلك نظرية المؤامرة متكاملة الأركان، وهذا الخط يفسر المناصرة بأن النظام السوري «مستهدف» من الولايات المتحدة وإسرائيل، وأن للنظام الحق في محاربة «الخارجين» عليه، كما فعلت الحكومة البريطانية العام قبل الماضي في مواجهة الشغب، دون أن يلحظ محدثك أن المقارنة هنا مع الفارق الكبير. طرف آخر ينظر إلى الموضوع من زاوية مختلفة، ولكن أيضا مناصرة، يتحدث البعض عن التشابك الاجتماعي الأردني/ السوري، سواء في المدن وعند الأطراف، وهو يرى أن هذا الصلف والعنف ما كان له أن يحدث لولا حمل «المعارضة» للسلاح.

أما المسار الثاني فهو مسار مبدئي وأخلاقي، يقول إنه لا يجب، تحت أية ذريعة، تبرير ما يقوم به النظام السوري ضد شعبه، فجرائمه مدانة إنسانيا وأخلاقيا وسياسيا، وهو طغيان يتلذذ بارتكاب الإجرام، وأن نظاما مثل هذا قد لفظه مسار تطور الإنسانية. لقد هب الشعب السوري بسبب القمع والصلف، ولن يهدأ إلا بعد أن يحصل على الحرية، من هنا فإن أي عمل ضد نظام الأسد هو مبرر أخلاقيا وسياسيا، فقد تحالف هذا النظام من أجل بقائه مع الشيطان ضد شعبه واستخدم حتى الأسلحة المحرمة في الحروب.

قلت هناك مسار ثالث يحتمي بالقول إن «الفوضى» المشاهدة هي نتيجة لما أحدثه «ربيع العرب»، وأن بلاد الربيع هي إما قُسمت أو في طريقها إلى التقسيم، ويشير إلى اليمن وليبيا كمثال، وفشل الأنظمة التي تلت أنظمة القمع الشامل في أن تقدم حلولا لمشكلات «التنمية»، سواء كانت اقتصادية أو سياسية، من هنا فإن «الإبقاء» على المجنون خير من مجيء «من هو أجن منه وأكثر عسفا»، لأن احتمال تطور المسألة السورية، إما التقسيم وإما سقوط سوريا تحت حكم متشدد من «النصرة» و«داعش»! ويذهب هذا التوجه للقول إننا في الأردن لا نرغب في التغير على هذا المنوال، ولا حتى في تطبيق «الديمقراطية» إن قادت إلى الفوضى، وإن كانت تنتهي بتأجيج صراع اجتماعي، كما حدث في بلاد الربيع، ومستعدون أن نضحي بـ«التطور السياسي» مؤقتا من أجل «الاستقرار»، يذهب محدثك للقول: لقد استقبلنا عددا كبيرا من اللاجئين العراقيين عند اضطراب العراق في التسعينات، ونستقبل تقريبا مليون لاجئ سوري اليوم، المقيد منهم 600 ألف، والمنتشر في المدن والقرى نحو 400 ألف، يعانون جميعا من حالة إنسانية مروعة وبائسة ومعظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن والمقطوعين اقتصاديا، ترى - يقول محدثك - لو حدث لنا شيء، لا سمح الله، من يستقبلنا؟؟ مثل هذا الطريق الثالث يكاد يقنع الحاضرين بأطروحته!

تشعر أيضا لدى النخبة الأردنية حذرا مشوبا بالقلق لما يجري في فلسطين، ويؤكد البعض أن اتفاقا من نوع ما يُطبخ الآن في الكواليس، سوف يقود إلى الوصول إلى الحل الشامل للقضية، بعيدا عن كل شعارات المرحلة السابقة، ويبرر هذا البعض بأن «القضية تركت وحدها» دون الظهير العربي، فانشغال العرب بـ«الربيع» وأحداثه، جعل كل داخل مشغولا بداخله، وهي مرحلة يقول محدثك إنها بدأت عندما نظر العرب باتجاه آخر بعيدا عن تقسيم السودان، فكرّت المسبحة، ولو كان عرب بداية القرن الواحد والعشرين هم عرب النصف الثاني من القرن العشرين لما قُسم السودان ولما ضاعت أو تكاد تضيع فلسطين، كما تبشر المسارات السياسية الحالية، من خلال «خطة كيري» الذي لا يستبعد محدثك أننا سوف نكتشف بعد حين أنها «خطة كيري لافروف أيضا»!، وهناك رأى لدى هؤلاء، وهو أن حل الدولتين قد سقط، وعلينا أن ننادي الآن بحل يعتمد على الدولة الواحدة، ما دامت خارطة الشرق الأوسط ترسم من جديد!

طبعا الأردن أول المعنيين بالحل النهائي، فهناك أسئلة كبرى سوف تطرح، من بينها: من هم «الأردنيون» ومن هم «الفلسطينيون»؟ السؤال الذي لم تواجهه الإدارة الأردنية حتى الآن بشكل حاسم، ولكنها من المفروض أن تواجهه في حال «الحل النهائي»، وما الضجة التي أحدثها كل من مجلس النواب الأردني والكنيست الإسرائيلي في الأسبوع الماضي حول «السيادة على الأقصى» في القدس إلا مقدمة لما يمكن أن نتوقعه في الأشهر القليلة القادمة.

الملفات الأردنية ذات الطابع العربي متعددة، فهناك سؤال يطرح أيضا، هو: متى تتحول «المساعدات» العربية، وهي خليجية بالأساس، إلى شراكة اقتصادية؟ هذه الخطوة تحتاج إلى إرادة وإلى تفكير استراتيجي متوسط وطويل المدى، وجب أن يطرح منذ الآن، فكرة المساعدات هي حلول آنية وموضعية مسكنة، لا يمكن الركون إليها لإحداث التنمية المستدامة، والبديل هو خلق شراكة، ذاك يحتاج إلى إصلاح قانوني وتشريعي من الأطراف المختلفة، كما يحتاج إلى مشاريع تصنيع، بدلا من ذهاب جل المساعدات إلى الخدمات! والملف الآخر المقلق هو التعليم الذي تقدمه الجامعات الخاصة إلى عشرات الآلاف من الخليجين، وهو تعليم تنقص الكثير منه الجودة، هذا لا يعني أن ما يقدم من تعليم في دول الخليج يتمتع كله بجودة عالية، إلا أن تدفق الشهادات العليا من بعض جامعات الأردن يخسف بمفهوم التعليم والتدريب خسفا يؤدي إلى انتشار التجهيل وتراجع مستويات التنمية البشرية، ولا توجد آلية ناظمة تضبط جودة التعليم لا من السلطة الأردنية ولا من السلطات في الخليج.

العلاقة الأردنية الخليجية تحتاج إلى «تعشيق» جديد بآليات جديدة، توائم بين الحاجة والقدرة، كما يحتاج الأردن إلى الإجابة عن سؤال: ماذا إن طال الصراع في سوريا، وتحولت كتلة ضخمة من البشر السوري من لاجئين مؤقتين إلى لاجئين دائمين؟ العقل العربي يستدعي هنا اللجوء الفلسطيني الذي اعتقد الجيل السابق أنه لجوء مؤقت، حتى أصبح في البداية يطلق عليه «مهاجرون» على أساس المخزون التاريخي أن «المهاجر» سرعان ما يعود إلى وطنه، ثم تحول الأمر إلى لجوء وأخيرا إلى مواطنين يعتقد بعضهم أنهم من الدرجة الثانية.

الأردن بلد صغير ولكن سقف الحريات فيه يتيح النقاش المفتوح، وهو بلد جعل من المثاقفة سياسة دائمة له على مر سنوات الحكم الحديث، وهو ما أنقذ البلد من التأثر بالعواصف المحيطة، ولكنه يجمع على أرضه كل الوجع العربي الذي سوف يُحتفل قريبا، وبشكل سلبي، بتوطينه في أرضنا قرابة قرن كامل، هو قرن الآلام!

آخر الكلام:

التساؤل في فضائنا العربي: لماذا كل هذا المخزون من العنف الذي تفجر في أرضنا ويكاد يأكل الأخضر واليابس؟ قتل تقوم به بعض السُّلَط، وآخر تقوم به جماعات في مصر وسوريا ولبنان والعراق واليمن وتونس وليبيا، ويستقطب كل الخارجين عن القانون في بلاد العالم، إنه عنف جارح إنسانيا ومدمر سياسيا، إنه داء جديد يكمن خلفه مخزون من التعصب الأعمى.