لبنان: هدنة سياسية بين تفجيرين

TT

نادرا ما اُستقبل تأليف حكومة بارتياح علني واسع كما استقبلت به الحكومة اللبنانية الجديدة، من قبل معظم الأطراف والجهات والأحزاب المتنافسة على الحكم في لبنان، بل ومن كل الدول الكبرى ومن الدول العربية.

أسباب الارتياح، الصادق أو الأقل صدقا، تختلف من طرف لآخر.. بعضها مرده التخوف من فراغ مؤسسات الدولة أو شللها في حال استمرار أزمة التأليف بضعة أشهر أخرى، وبعضها مرده التخوف من انتقال النزاع السياسي إلى الشارع، بشكل طائفي أو مذهبي.. ومن بينها، أيضا إدراك السياسيين والأحزاب والتكتلات السياسية النقمة الشعبية المتنامية عليها وتحميلها مسؤولية التوتر السياسي في البلاد والواقع الاقتصادي المتردي.

وما يؤمله الجميع هو أن تجتاز الحكومة عقبة البيان الوزاري (التوفيق الإنشائي بين «المقاومة» و«بيان بعبدا») وأن يتفق أعضاؤها على قانون انتخابي نيابي جديد والإشراف على انتخابات رئاسية ديمقراطية بعد انتهاء ولاية الرئيس سليمان. وإنها لاستحقاقات وطنية وسياسية كبيرة من شأنها إثبات - أو نقض - الإرادة أو المصلحة الوطنية التي تذرعت بها قيادات «8 آذار» و«14 آذار» للجلوس معا حول طاولة مجلس الوزراء.

فما حظوظ حكومة «المصلحة الوطنية» اللبنانية الجديدة في اجتياز كل هذه العقبات والمطبات ووضع لبنان مجددا على خط الحياة السياسية الديمقراطية الطبيعية والاستقرار والأمن والاطمئنان؟

لا شك في أن مآل الحرب الأهلية التي تعصف بسوريا، أيا كان، يشكل عاملا رئيسيا، بل أساسيا في الاستقرار السياسي في لبنان. وإنه لحلم جميل جدا أن تعود العلاقات الأخوية بين دمشق وبيروت إلى ما كانت عليه في سنوات استقلال البلدين الأولى، بعد أن قام الحلف الثلاثي السوري - الإيراني - الروسي. فهذا الحلف يجعل من إيران طرفا مباشرا ومؤثرا في السياسة اللبنانية عبر حزب الله. ولا شيء يدل على أن إيران ميالة إلى التخلي عن مشاريعها «الشرق - أوسطية» لكي تترك لبنان وشأنه وتسحب يدها من شؤونه، وما تثيره هذه المشاريع وردود الفعل العربية والإقليمية عليها، من مضاعفات وتفجيرات في لبنان.

صحيح أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بل وكل الدول الإقليمية المهمة، لا تكف عن إعلان دعمها للبنان وسيادته وكيانه وديمقراطيته، ولكن إلى أي حد يصل هذا الدعم؟ حتما ليس إلى حد التدخل العسكري للمحافظة على استقلاله ووحدته وديمقراطيته. وهل مصلحة لبنان تتقدم على مصالحها الأخرى في الشرق الأوسط، لا سيما مصلحة إسرائيل ومصالح الدول الإقليمية النافذة؟

إن المشهد العام للشرق الأوسط، لا سيما بعد الربيع العربي، يغلي بالتوترات والمفاجآت، ولا يبشر بأي تحولات إيجابية تساعد لبنان على التقدم نحو الاستقرار السياسي الديمقراطي.. وما زيارة المشير عبد الفتاح السيسي لموسكو سوى أولى نتائج تحول السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، ومؤشر بليغ على الاتجاهات الدولية الكبرى و«الشرق أوسطية» الجديدة في مطلع هذا القرن الحادي والعشرين.

هل سيتمكن لبنان الذي يتحمل أوزار صراعات الآخرين على أرضه، منذ 40 عاما، من أن «يزمط بجلده» من بين الحرائق الصغيرة المشتعلة فيه، والحرائق الإقليمية التي تهدده من الخارج؟ ربما لو أن عصا سحرية مست جميع الأحزاب والسياسيين فيه فحررتهم من شباك الدول المتلاعبة بهم (وهم يعتقدون أنهم يستخدمونها لدعم زعاماتهم)، أو لو أن عصا سحرية أخرى مست الدول الكبرى والإقليمية النافذة فأقنعتها بالتخلي عن تصفية حساباتها في لبنان وعلى حساب الشعب اللبناني.. ولكن..

من الصعب، اليوم، معرفة الأسباب العميقة أو الحقيقية التي «دورت الزوايا» وأوصلت «أعداء الأمس» إلى الجلوس معا في حكومة واحدة.. ولكنها ستعرف غدا أو بعد غد.. غير أن «ساعة التجلي» هذه قد تستمر وتساعد في اجتياز كل العقبات التي ما زالت ماثلة أمام أعين الجميع في الداخل والخارج.. فتلك هي أمنية كل لبناني، بل كل إنسان أحب لبنان قبل أن يتحول من واحة هناء إلى ساحة قتال.

قد لا يكون تأليف الحكومة اللبنانية أكثر من هدنة مؤقتة بين الأطراف اللبنانية والعربية المتنازعة فيه وعليه، نظرا لبقاء الحرائق التي تتهدده من الداخل والخارج مشتعلة.. فليكن.. فذلك يبقى أفضل من العيش على حافة البراكين والاستسلام لنيرانها.