المويلحي رائد الهجرة العربية

TT

طالما طرح القوم عليّ هذا السؤال: متى تعود للعراق؟ أجبتهم قبل أيام قليلة فقلت: سأعود عندما يعود اليهود للعراق! فتدفق اليهود على أي بلد مقياس جيد، على أمل الاستقرار والأمن والأعمال في ذلك البلد. والطريف أنني خرجت من العراق في الأيام التي خرجوا فيها. وصفوني عندئذ بأنني كطير النورس الذي يشم العاصفة من بعيد ويطير بعيدا عن مسارها. ولكن سبقنا لكل ذلك الكاتب المصري إبراهيم المويلحي. قضى حياته بعيدا عن مصر وقلما زارها. علق على ذلك فقال: «إن مصر أشبه بالمقبرة: مكان يزار، لا مكان للدار!».

بالإضافة لمقالاته الساخرة، تميز عموما بحلاوة لسانه وطرافة ملاحظاته وإشاراته. كان راكبا حماره ومر بدكان حسن مدكور بالحمزاوي فحياه، فرد عليه الشيخ بسلام بارد فاتر، فامتعض منه المويلحي واستغرب، فعاد بعد قليل ونادى على صاحب الدكان وطلب منه أن يريه ما عنده من فناجين القهوة، فقام الشيخ وعرض عليه نماذج مختلفة منها. والمويلحي يقلبها بين يديه ويسأل عن أثمانها. سأله أخيرا عن واحد معين منها، فقال له صاحب الدكان: ثمنه قرش واحد. فرمى به الكاتب الظريف على الأرض وكسره. ثم أخرج من جيبه قرشا ورمى به ثمنا له فنهض الشيخ ولقف القرش. فقال له: «يا شيخ، الذي يقيمه قرش ويقعده قرش ما يصحش يتعالى على الناس!».

رغم ميوله الحداثية، فقد كان إبراهيم المويلحي كمن سواه من ظرفاء الأدب العربي، كثيرا ما التجأ إلى السجع في التعبير عن تهكمه ودغدغة القارئ بمفارقات الكلام وإيقاعية اللفظ، كما فعل بالنسبة لحادثة الأعمى والبصير.

وخلاصة ذلك أن رجلا أعمى تماما أمسك برجل مبصر حقا، في حي الصنادقية بالقاهرة وقتله. أثارت الواقعة صدى كبيرا في الصحافة المصرية بالنظر لغرابتها وشذوذها عن الواقع والمتوقع. فلم يكن لرجل ظريف ساخر غير أن يجد في الحكاية ما يثير قريحته. وهكذا، استغل إبراهيم المويلحي هذه المفارقة الغريبة وجعلها قياسا لكل الأحوال التي تجري في مصر ومعظم بلداننا العربية وتجري بالمقلوب والمعكوس فنرى الجهلاء من الإسلامويين الإرهابيين، الأشبه بالعميان، يفتكون بالعقلاء المفكرين والمثقفين العلمان. انبرى فكتب في ذلك مقالة ظريفة تعليقا على الحادثة فقال:

«إذا أصبح الأمي محررا، والأعمش مصورا، وأصبح الوزير شاكيا والمغني باكيا، وأصبح القاضي محتالا والوصي مغتالا، وأصبح العالم مخرفا والجاهل مؤلفا، وأصبح الأجنبي مدللا والوطني مذللا، وأصبح مدير المعارف أعجميا، ومفتش المدارس عاميا، وأصبح عميد الشيطان يتعبد ويتهجد، وأسلم المسلم خريستو بعد أحمد، وأصبح الدعي حسيبا نسيبا... فليس من غريب المقادير أن يفتك الأعمى بالبصير...!».

وما أشبه هذه الأيام - يا سادتي الكرام - في شتى ديار الإسلام بالبارحة، لا، بل وقل أسوأ وأغرب وأظلم!