لماذا علينا الالتفات إلى آسيا؟

TT

هذا سؤال كبير كبر مساحة آسيا وحجم سكانها ويتطلب الجواب عنه تفهما عميقا لما يدور في القارة الآسيوية من حراك وتطور باعث على الدهشة على مختلف الصعد، يقابله في أوطاننا العربية - للأسف - حراك أيضا لكن من النوع المفضي إلى الدمار والخراب والفوضى.

لكن قبل الإجابة عنه لا بد من التأكيد على مبدأ مهم هو النظر إلى تعزيز علاقات المنظومة الخليجية بالأقطار الآسيوية الصاعدة من منظور استراتيجي مستقبلي، عماده المؤشرات القائلة باحتمال انتقال مركز القوى السياسي باتجاه آسيا، كونها أصبحت تستحوذ على نصيب كبير من حجم الإنتاج العالمي. كما يجب أن يكون تعزيز مثل هذه الروابط ناجما عن قناعة حقيقية بضرورة تنويع مصادر الاعتماد والتشابك الاقتصادي، في ظل البروز الهائل لآسيا، وبضرورة إقامة شراكة حقيقية بينية متعددة المستويات والمجالات تحقيقا لمصالح مشتركة. وبمعنى آخر يجب عدم استخدام العملية كنوع من أنواع المناكفة للحليف الغربي التقليدي أو ابتزازه، فالمناكفة والابتزاز ليسا ديدن السياسات الخارجية الخليجية على أي حال.

إن من أول الأسباب التي تدعونا إلى ضرورة الالتفات إلى ما يجري في آسيا، هو أن بعض دولها تسابق الزمن في الصعود والارتقاء إلى مصاف القوى العظمى علما وقوة ونفوذا، وبما يؤكد ما قيل من أنّ القرن الحالي هو قرن آسيوي. ويجزم بعض المراقبين بأنه لن ينتصف القرن الحالي، إلا وتكون الصين والهند قد سبقتا الولايات المتحدة في بعض المجالات التي تتفرد فيها الأخيرة اليوم. ومن هذا المنطلق نتمنى أن تكون التجارب الماضية قد علمت صانع القرار الخليجي أن السياسات الوقتية أو الآنية، لم يعد لها مكان في عالم اليوم المتميز بالدينامكية، ولا يمكن أن تبني دولا حديثة أو استقرارا أو نفوذا، وأنّ المطلوب هو وضع استراتيجيات ورؤى قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى للتعامل مع مختلف الاحتمالات والتطورات المستقبلية فيما يخص علاقات بلداننا مع الآخر.

ومن بين الأسباب الأخرى التي تدعونا إلى ضرورة الاهتمام بآسيا، أن بعض دولها تجسد نماذج وضاءة في التنمية والنهضة والتطور قابلة للاستعارة والتطبيق في بلداننا، إن أحسنا تهيئة البيئة المناسبة ووفرنا الطاقات اللازمة. نقول هذا ونحن نعي أنه لا توجد وصفة سحرية واحدة للنهضة والتقدم حتى بالنسبة لدول الشرق الأقصى نفسها، بفعل تباين أوضاعها ومعطياتها وأهدافها. ونقوله ونحن نعي أيضا أنّ من أهم أسباب التفوق الآسيوي المنظومة الفكرية والقيمية والمجتمعية السائدة هناك، والتي تختلف عما هو في الخليج. ويمكن في هذا السياق إدراج أشياء كثيرة تحت هذه المنظومة مثل المكانة المقدسة لعاملي العلم والعمل ومسائل الجدية والالتزام والتفوق والابتكار والتأمل والمحاكاة. غير أن هناك شيئا من التشابه بيننا وبين الآسيويين في بعض المعطيات. ففي كل قطر من أقطار آسيا توجد تجارب ناجحة ورائعة في حقل أو أكثر، بإمكان أوطاننا أن تطبقها أو تسترشد بها أو تتخذها كخارطة عمل، مع إجراء ما يلزم من تغييرات طفيفة، بدلا من إضاعة الوقت والجهد والمال في تنظيرات ودراسات حول كيفية حل هذا المأزق التنموي أو ذاك. وإذا ما استطعنا عبر هذه المحاولات تحقيق نصف أو ثلث ما حققه الآسيويون في أي مجال، فإن ذلك في نظري سيكون شيئا رائعا وإنجازا عظيما يمكن أن يقود إلى إنجازات أخرى.

وأخيرا، فإن الكثير من الأقطار الآسيوية الكبيرة والصغيرة والمتوسطة تتوفر فيها اليوم - بعدما خلعت رداء الاقتصاد الموجه، وتبنت سياسات السوق - فرص اقتصادية واستثمارية صحية ومشجعة لدول الخليج العربية على اقتناصها عبر الدخول مع هذه الأقطار في شراكة اقتصادية متعددة الجوانب، خصوصا أن ما يجري فيها من حراك اقتصادي جاذب للاستثمارات الأجنبية، أدى إلى زيادة اعتمادها على الطاقة التي لا يزال الخليج أحد أكبر مصادرها الرئيسة. لذا فإن أي اهتمام وتحرك خليجي صوب آسيا، يعد ضرورة تفرضها المصلحة الوطنية. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أمر يجب على دول الخليج العربية، أن توليه عناية فائقة وهو استثمار المال العام الفائض عن حاجة الداخل في مشاريع مجدية ومربحة في الخارج، لصالح صندوق خاص للطوارئ. وهنا تبرز أهمية الاستثمار الخليجي في آسيا، حيث الفرص اللامحدودة مقرونة بوجود بنى وخدمات حديثة وعمالة مدربة رخيصة ومواد أولية متاحة، ناهيك عن زوال الكثير من القيود السابقة حول دخول وخروج الاستثمارات الأجنبية ومجالاتها.

* كاتب وأكاديمي من البحرين