عندما يتجلى العقل الإنساني

TT

كان جدي رحمه الله يحرص على اقتناء وزراعة أجود أنواع النخيل، وكان لفسيلة صغيرة أهديت له من جنوب مدينة الرياض مكانة خاصة، دللها وجعل لها موقعا جغرافيًّا مهما في الصدر بمعزل عن البقية، ومن شدة حبه لها أطلق عليها اسم «غطارس»، جمع «غطرس» أي المعجب بنفسه المتكبر. راق لي الاسم لأن فيه إشارة إلى الجمال والقوة والغنج، فأصبحنا كلنا ننظر لغطارس بالنظرة عينها من التميز، الصغيرة المدللة التي كبرت وطرحت طلعا طيبا. لم نكن ننتظر منها إنتاجا خاصا مقابل هذا التخصيص العاطفي، لم يكن ثمرها أكثر عددا ولا أسرع في النضج، ولا أطيب طعما من غيرها، ولم تكن تكلفة زراعتها والعناية بها أقل، إنما هي طبيعة أهل المنطقة في التعاطي مع بيئتهم التي تربطهم وجدانيا بالنخلة والناقة والفرس.

من الواضح أن الغطرسة لا تجعل من صاحبها في الحقيقة عنصرا استثنائيا، بل يظل محكوما مثل غيره بقوانين الطبيعة مهما أولي من رعاية واحتواء، الطبيعة التي تؤكد لنا منذ التاريخ أن التوازن بين الأخذ والعطاء هو أساس الاستقرار وأداة العمارة والتطوير. بقدر ما تعمل تجني، هي معادلة عادلة، وعلاقة طردية متوازنة.

في اليابان، حيث يحل ولي العهد السعودي الأمير سلمان ضيفا، كان لافتا كيف تجلى وسما العقل الإنساني حينما قدم «روبوت» ياباني الصنع، الزهور لولي العهد السعودي ترحيبا بزيارته لجامعة «واسيدا» اليابانية نيابة عن طلابها. عقولهم المتحركة تنوب عنهم في الترحيب بالضيوف! طراز رفيع من أسلوب تقديم المنجز العلمي الياباني فاق كل فخامة، وتكريم للضيف بأرقى وسيلة عرفتها البروتوكلات العالمية، وتسجيل حضور لا سابق له لمقام العقل الذي خضعت له كل أدوات البحث والتفكير واستسلمت لمشيئته الرغبات والنزوات.

من كان يفكر قبل مائة عام أن رجلا آليًّا (وربما تكون امرأة آلية) ستحل محل الإنسان في التواصل والتفاعل؟ لا غرو، إنها اليابان، بلد العلم والعمل، ومن جامعة «واسيدا» التي منحت ولي العهد السعودي شهادة الدكتوراه الفخرية في القانون، تخرج فيها رئيس شركة «هوندا» ورئيس شركة «توشيبا»، وفيها تخرج كذلك أحد أهم مؤسسي شركة «سوني»، ورئيس شركة «ميتسوبيشي»، ورئيس شركة «نينتندو»، إضافة إلى مؤسس مجموعة «سامسونغ» الكورية الجنوبية والرئيسة الحالية لـ«سامسونغ».

كان بودي لو أقول مسكينة اليابان، دكت بالقنابل الذرية قبل ستين سنة، وهزمت هزيمة نكراء، وفرض عليها المنتصرون دستورها، وسيقت مثل أضاحي العيد لمصيرها المحتوم، دولة توفرت فيها كل أسباب الانهيار؛ الهزيمة المعنوية والحسية، وشحّ الموارد الطبيعية. إنما لم يحصل شيء من هذا، ابتلعت اليابان الهزيمة ورضيت بالتبعية المؤقتة للمنتصرين، قبلت بدستور فرض عليها ولم ترفضه بسبب صناعته الغربية، لأنه توافق مع مصالحها، ففيه تأكيد على حقوق الإنسان والعدالة والجنوح للسلم. لم يخرج أحد في شوارع طوكيو ينادي بالنفير والتعبئة ضد أميركا، لم يرقص أحد على جراح هيروشيما وناغازاكي، لم يتباك اليابانيون كثيرا. يظن المتأمل للوهلة الأولى أن التفوق العلمي هو حصيلة العقل والمال، هذا غير صحيح، اليابانيون نهضوا بالإرادة؛ «الإرادة» هي وقود العمل، هي من جعلتهم ينفضون غبار القنبلة الذرية عن عقولهم فانتجوا المال الذي وضعهم اليوم ثالث أكبر قوة تجارية على مستوى العالم. كدح اليابانيون ليكونوا على ما هم عليه اليوم، عملوا بجد ستين سنة، كان الاجتهاد في العمل قضية حياة أو موت وليس رفاهية، ومقابل كل «ين» ياباني يحصل عليه العامل هناك جهد وبذل يكافئه.

أقول قولي هذا وأنا أستمع لأصوات في إحدى مناطق السعودية تطالب بالإبقاء على المرأة في المنزل مع تخصيص راتب شهري لها ولكل مولود، وعدم الدفع بابتعاثها للدراسة في الخارج. يظن هؤلاء أن نعمة النفط دجاجة تبيض ذهبا ولهم حق مقدر منها بلا مقابل. هذه العنجهية في التفكير هي ما سيجعل من النساء مجموعة من «الغطارس»، تستقبل العناية، لكنها ليست الأفضل ولا الأكفأ ولن تكون كذلك.

في كل صباح تنتفض شوارع الدول المتحضرة، بقطاراتها ومشاتها وسياراتها، رجالا ونساء، متحفزين للعمل الذي يحقق لهم الأمان والشعور بالإنصاف والاكتفاء والقدرة الذاتية. أما المتغطرسون فيطالبون بلقمة عيشهم بشكل مغاير تماما. ضعف ثقافة العمل وغياب الإرادة تنتج جيلا من الكسالى والمتطلبين هم في الحقيقة عبء على مجتمعهم وعلى الدولة واقتصادها، ونماذج سيئة من الأجدر تهميشها وتجاهلها حتى لا تعم عدواها الشباب الطامح المتطلع.

إننا لا ينبغي أن نحاول أن نشل نصف قدرة المجتمع الذهنية والإنتاجية بإبقاء النساء في البيوت، بل ينبغي أن نزيد الإنتاجية بعملهن.

ليعلم هؤلاء، كما علم اليابانيون من قبل، أن النجاح ليس صدفة، والتفوق ليس حظا، بل منتج طبيعي لجهود مضنية دؤوبة، وكما أن السماء لا تمطر ذهبا فإن الأرض لا تعطي خيراتها للكسالى، والأهم من ذلك أن النساء في السعودية لسن بدعا من النساء ولا استثناء، ولسن بالتأكيد مجموعة من «الغطارس».

[email protected]