لنقرأ السياب بصوت عال

TT

لم تكن «أنشودة المطر» قصيدة، فحسب، مثل غيرها من النصوص في المنهاج الدراسي المقرر على طلبة المدارس في العراق. إنها نشيد وطني وتميمة حب طالما استعار العشاق اليافعون مطلعها في مناجاة الحبيبات الصغيرات: «عيناك غابتا نخيل ساعة السحر... أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر».

نأى القمر عنا كثيرا. لكن مسا من زمن اليفاعة يعود ليراود النفس وهي تسمع أن أهل الشعر في العراق يستعدون للاحتفاء، هذا العام، بالذكرى الخمسين لغياب بدر شاكر السياب، صاحب الأنشودة الفذة والشاعر الذي تمرد على عمود الشعر ومضى يحلق في فضاءات التفعيلة. نصف قرن؟ كأن صورته الشهيرة التي تنشرها الصحف ما تزال حاضرة بيننا، بالعينين الساهمتين والأذنين النافرتين والشارب الرفيع والخد الناحل المسند على راحة الكف المفتوحة.

فتح بدر كفا ساحرة تطير منها بلابل شعر مختلف وغير معهود. كان متمردا تشفع له موهبته. لذلك، استقبله العراقيون، والعرب، استقبال القبائل القديمة التي كانت تحتفي بميلاد شاعر بين ظهرانيها. لكنه كان شاعرا منذورا للرحيل وللغياب. فقد زحف المرض عليه وضمر جسده واكتأبت روحه وتنقل في العيادات والبلدان يطلب تسكينا لآلامه. والأغنية عندنا تقول: «جرحك يا قلب... خزن ولا تسكينة».

مات السياب، وهو من هو في حركة الشعر العربي الحديث، وحيدا بعيدا عن عائلته، في المستشفى الأميري بالكويت. وحمل صديق كريم جثمانه إلى البصرة، في ليلة شديدة المطر: «مطر... مطر... مطر...»، ليوسده تراب مقبرة الحسن البصري في الزبير، بحضور نفر قليل من المشيعين، ليس بينهم أي من حبيباته الثماني اللاتي خطرن في القصيدة: «وما من عادتي نكران ماضي الذي كانا، ولكن كل من أحببت قبلك ما أحبوني، ولا عطفوا عليّ. عشقت سبعا كن أحيانا، ترف شعورهن عليّ تحملني إلى الصين».

كان يتمنى لو عاد إلى أهله سائرا على رجليه. لكن جسده كان قد أصبح «عمود ملح»، كما كتب. وكثيرة هي القصائد التي وصف فيها حلم الرجوع الذي لم يتحقق له إلا ميتا، فعاد ليرقد في تربة وطنه. ولعله الامتياز الوحيد لمن بكر في الرحيل. فقد أغمض الجواهري الكبير، محمد مهدي، عينيه في دمشق ودفن بمقبرة الغرباء عند ضريح السيدة زينب. وهناك أيضا دفن الشاعر عبد الوهاب البياتي. أما نازك الملائكة، ففي إحدى مقابر القاهرة. وبلند الحيدري في لندن. وحتى الأحياء من تلك الشعلة المضيئة من الشعراء أو من جاء بعدهم، يعيشون موزعين في المنافي منذ عقود. سعدي يوسف في بريطانيا، ولميعة عباس عمارة في أميركا، وفاضل العزاوي ومؤيد الراوي في ألمانيا، ومحمد سعيد الصكار في فرنسا وعيسى الياسري في كندا... وغيرهم كثر.

أتمنى للسياب احتفالية من نوع مغاير لتلك الندوات المملة التي ترتجلها المؤسسات الثقافية من باب أداء الواجب. احتفالية شعبية، أو «جماهيرية» بلغة هذا العصر، تكون بمستوى محبتنا له وامتناننا للشاعر الذي أضفى على حياتنا الفرح والألق والشجن. وقد قرأت للصديق عبد الرزاق الربيعي مقالا بمناسبة زيارته للصين، تحدث فيه عن عيد سنوي تقليدي يتوقف فيه الصينيون عن العمل ويتوجهون إلى ضفة نهر «ميلو»، إحياء لذكرى الشاعر تشيوي يوان الذي مات غريقا في مياهه. وكان الزوار يأخذون عائلاتهم وأطفالهم لإلقاء الطعام في النهر، لعل الأسماك والتنانين تكتفي به وتعف عن لحم الشاعر.

لا أدري أي مياه بقيت في نهير «بويب» الذي كان يجري حذو «جيكور»، قرية السياب التي خلدها في قصائده: «حلو الخرير ملاذ كل معذب... ظمي الفؤاد وأنت بعض سقاته». لا أدري إن كانت الأسماك تلبط هناك وتقتات على جسد شاعر يائس. وقد قرأت أن الحكومة المحلية في البصرة (صارت لنا حكومات بدل الواحدة) تعتزم إعادة حفر النهر وترميم بيت الشاعر وتحويله إلى متحف له. كثر الله خيرها. ومن الآن وحتى ينتهي العمل في المشروع، وما دام تقليد الصينيين متعذرا، فلا بأس من تقليد الفرنسيين حين احتفلوا، أخيرا، بمرور 150 سنة على صدور رواية «البؤساء» لفيكتور هوغو. لقد خرج 200 رجل وامرأة من أهالي مدينة تولوز وشرعوا في إلقاء فصولها، بصوت عال، في تلاوة متصلة استمرت ليومين. ولم يكن القراء من الممثلين المحترفين، بل كان بينهم قضاة وفلاحون وعمال وممرضات وربات بيوت.

دعوة إلى كل الأدباء ومحبي السياب، المقيمين والمهاجرين: اخرجوا إلى النوادي والمقاهي وساحات المدارس وقاعات الجامعات، إلى الشوارع وأسطح البيوت، واقرأوا قصائد بدر بأصواتكم، همسا أو نشيدا، ولتنتشر صوركم على مواقع التواصل الاجتماعي، من البصرة إلى سيدني، ومن صنعاء إلى مالمو وتورنتو، وليرها العالم كله ويعرف أننا شعب يعشق الشعر، لا الدم.