حول مصطلح «الإسلام السياسي».. نقاش إلى نقاش

TT

قرأت مقال الأستاذ الكبير والمفكر المعروف رضوان السيد «نقاش حول مصطلح (الإسلام السياسي)» في صحيفة «الشرق الأوسط» في عددها 12869، الجمعة 21/ 4/ 1435هـ الموافق 21/ 2/ 2014م، وقد كان نقاشا (كعادة الأستاذ رضوان وفقه الله) موضوعيا واضح الطرح متزن الفكر جلي الرؤية. وكما استأذنني - مشكورا - في النقاش، فإني أستأذنه في الاشتراك معه في النقاش من خلال هذه الوقفات:

الوقفة الأولى: إن اتصالي الفكري بالأستاذ رضوان مستديم؛ فلي قراءات ومطالعات في مؤلفاته وكتاباته (حفظه الله)، وكان آخرها قبل ثلاثة أسابيع حين شاركت في مناقشة رسالة دكتوراه حول كتاب «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» للمستشرق مايكل كوك، والرسالة مقدمة حول النسخة العربية، التي قام بترجمتها الأستاذ الكبير مع زميلين آخرين، وقد استشهدت في منصة المناقشة بكلام منصف للأستاذ رضوان حول المستشرق وكتابه ونظرته للإسلام والتراث الإسلامي، خاصة في كتابات المستشرق الأخيرة.

الوقفة الثانية: أشكر للأستاذ رضوان حسن ظنه بأخيه، وما استفتح به نقاشه من كلمات تقديرية هي محل تقديري وامتناني، وأقول كما يقول علماؤنا: «اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، واجعلني خيرا مما يظنون».

الوقفة الثالثة: إن هذه الوقفات ليست تعقيبا على هذا الأستاذ الفاضل، فليس من عادتي الدخول في التعقيبات والمناقشات والاشتغال بالردود، بل إني أنصح بأن لا يشتغل الباحث والكاتب بالردود، لأن لها تأثيرا نفسيا على صاحبها، وكثيرا ما تخرج به عن الموضوعية إلى الشخصية، إلا من رحم ربك.

وعليه، فإن ما أعرضه هنا هو توضيح وجهة نظر عن المصطلح الذي (كما تفضل الأستاذ) كثر الخوض فيه، بل قد يكون أصبح عليه ولاء وبراء (إن جاز التعبير)، مؤكدا أن ما أقدمه هنا هو وجهة نظر تقبل الأخذ والرد، ويعذرني القارئ والمتابع الكريمان أنه إن ظهرت وجهات نظر وتعقيبات فهي محترمة عندي، وأرجو أن لا ينتظر مني التعقيب أو التعليق لما أسلفت من عزوفي عن هذا المسلك. والإنسان إذا تحرى الحق، وسلم من الهوى والتعصب والانتماءات الضيقة، فإنه سوف يهدى (بأمر الله) إلى الحق، وسوف ينال إما الأجر أو الأجرين في خطئه أو صوابه.

الوقفة الرابعة: إن ورقتي التي قدمتها لندوة الجنادرية، والتي أشار إليها الأستاذ الكريم ليس فيها تعرّض لا من قريب ولا بعيد لهذا المصطلح؛ فقد كانت مقصورة (كما طُلب مني) على «المنهج السلفي وعلاقته بالتطرف والتكفير»، وإنما جاء الكلام مني على هذا المصطلح أثناء مداخلات بعض المداخلين، ولعلهم أقحموني فيه إقحاما فاحتجت أن أقول ما قلت وما نسب إليّ فهو صحيح على ما سوف أوضح إن شاء الله.

الوقفة الخامسة: إنني في مناقشتي هذه وفي كل كتاباتي حريص على اتباع المنهجية العلمية والتزام الموضوعية، ولا أعير اهتماما لأي انتماء، فأنا لا أنتمي إلا إلى منهج السلف الصالح، ولعل الأستاذ كان حاضرا حين قدمت ورقتي في الندوة، وقلت إن هذا المنهج (منهج السلف) لا يدعي احتكاره أحد، والمنتمون إليه لا يجوز أن تُحسَب أخطاؤهم واجتهاداتهم على هذا المنهج، وذكرت مصادر التلقي فيه، وقلت إن السلف ليس لهم لقب يُعرفون به ولا نسب ينتسبون إليه، واستشهدت لذلك بأقوال بعض الأئمة، وقلت: إنه ليس حقبة تاريخية محدودة ولا جماعة مذهبية محصورة، بل منهج لا يتقيد بزمان ولا يحصر في مكان، فهو ليس حزبا ولا تيارا ولا حركة، ولا تشكلات سياسية، ولا غير ذلك من أي نوع من أنواع التجمعات، فهو منهج لا جماعة.

ومن هنا، فإن وقفاتي هذه هي وقفات موضوعية ليست ردا على أحد ولا دفاعا عن أحد، سائلا الله وحده العون والتسديد.

الوقفة السادسة: أشارك الأستاذ رضوان في عدم معرفة متى نشأ هذا المصطلح ومَن أول من قال به، وقد قال بعض المتداخلين في الندوة المذكورة إن أول من قال به كاتب فرنسي في فترة السبعينات من القرن الماضي. كما وجدت في بعض القراءات أن أول من أطلقه هو هتلر، حين قال: «إنني لا أخشى من اليهود ولا من الشيوعية، بل إنني أخشى من الإسلام السياسي»، كما أشاركه (حفظه الله) بأنه ليس من الضروري اتباع ما يقترحه الباحثون أو الاستراتيجيون الغربيون علينا.

وأضيف أننا نقبل الحق والخير ممن جاء به، والحكمة مقبولة من أي وعاء خرجت من عدو أو صديق، فالحق ضالتنا والعدل في القول والحكم منهجنا.

ولكنني أضيف أيضا أن الأمر لم يقتصر عند بعض كتابنا ومفكرينا على القبول من عدمه، بل جعلوها معايير وضوابط ومنطلقات يحكمون بها على مصطلحاتنا الشرعية، بل أحيانا على أحكامنا الشرعية، مثل بعض مفاهيم حقوق الإنسان والمرأة والطفل والحقوق السياسية وغيرها.

كما أن الغرب نفسه جعل من مبادئه وسياساته وما نشأوا عليه وألفوه واصطلحوا عليه معايير ومنطلقات يحاكم عليها الدول والشعوب ويعادي عليها ويوالي، ويدني ويقصي، ويملي شروطه السياسية والاقتصادية والحقوقية وغيرها، وما خالفها فهو عندهم المتشدد المنغلق والشاذ وغير المتماشي مع العصر والانفتاح والتقدم، وأحسب أن هذا هو الذي يجب أن يقف دونه قادة الفكر والرأي فينا ليحفظوا لنا استقلالنا وهويتنا. فلا ينبغي أن يرق ديننا أمام هذه المصطلحات وأشباهها.

الوقفة السابعة: هذا المصطلح (الإسلام السياسي) لا أقول إنه لا معنى له (كما ظن الأستاذ رضوان)، لأن مراد الذين يقولون به واضح معروف، ولكني لا أرى صحته واستقامته لأمور:

الأول: إن هذا يستدعي أن يكون هناك إسلام اقتصادي، وإسلام تربوي، وإسلام اجتماعي، وإسلام دعوي وهكذا، حسب العلوم والأوضاع في الزمان والمكان والأشخاص، كما يستدعي أن هناك إسلاما غير سياسي. بل هو تصنيف للإسلام وتشقيق غير صحيح.

وأحسب أن القول الفصل في ذلك هو أن الإسلام كلٌّ لا يتجزأ؛ فكمال الدين المدلول عليه بقوله تعالى: «اليوم أكملت لكم دينكم» يعني شموله السياسي والاقتصادي والتشريعي والتربوي والاجتماعي وغيرها مما هو واقع وما هو متوقع وما يستجد، «ما فرطنا في الكتاب من شيء» في الشأن كله؛ في حياة الفرد والأمة والمجتمع والدولة. ولا أعتقد أن مسلما يقول إن الإسلام هو شأن فردي بين العبد وربه لا مدخل له في الحياة العامة وشؤون الناس، بما فيها السياسة وإدارة الدولة.

الثاني: السياسة في مصطلحها المعاصر، وكما يعبّر كثير من العقلاء، «لعبة قذرة»، لأنها تعني التلون والحرص على تحقيق المكاسب بأي طريق، وتقليل الخسائر، بقطع النظر عن الطرف الآخر وحقوقه، ومعيارهم «لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، ولكن مصالح دائمة»، وأسلوبهم «الغاية تبرر الوسيلة».

وأحسب أن الإسلام من ذلك براء في أحكامه وسياسته واقتصاده، وفي شأنه كله.

الثالث: حينما نقول «الإسلام السياسي»، فما تحت هذا المصطلح سيكون منسوبا للإسلام من أخطاء وأطماع وحيل ومكر وتلوّن. وهذا لا يجوز إقراره ولا القول به، لهذا فإن الصحيح أن ما يحدث من هذا - لو حدث - فهو منسوب لمن صدر منه؛ فيمكن القول: «المسلم السياسي، أو السياسي المسلم، أو رجال السياسة المسلمون»، وما يشبه ذلك؛ فالأشخاص يخطئون، وقد ينحرفون، وقد يقصر فهمهم أو يقل علمهم، بل قد يسوء قصدهم، فهم بشر، وكل ذلك لا يجوز أن يُنسب إلى الإسلام، بل تكون النسبة إلى الأشخاص وليس إلى الدين، وأحسب أن هذا ظاهر.

الوقفة الثامنة: لا أشارك الأستاذ الكبير في عبارته «تسيس الإسلام»؛ لأنها في فهمي تعني فصل الإسلام عن السياسة، وأنه لا دخل له بالسياسة، وهذا لا أحسبه صحيحا. وأقصد بالسياسة هنا إدارة شؤون الناس كلها بالإسلام، حكاما ومحكومين، داخليا وخارجيا، فردا ومجتمعا ودولة، وهي التي عبر عنها المتقدمون بقولهم: «الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا»، بل يقول إمام الحرمين الجويني: «الإمامة رياسة تامة وزعامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا»، ويقول ابن خلدون: «هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به»، وهذا كله من معاني الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقا وعبادة ومعاملة، والإسلام دين ودنيا، والإسلام دين ودولة، أحسب أن هذه العبارات مؤداها واحد، بمعنى أن الإسلام ينتظم حياة الناس العامة والخاصة أفرادا وأمة ومجتمعا ودولة، وليس مقصورا على العبادات أو بعض المعاملات أو الأحوال الشخصية.

وأما السياسة بالمعنى المذكور في الوقفة السابعة؛ فنعم، الإسلام منها براء، إذا كانت تعني الكذب والمكر والتلوّن والمخادعة والتسلط والبغي والمصالح الضيقة، ولو كانت دولية.

وأحسب أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان دقيقا في فقهه وفهمه - رحمه الله - حين عبر بـ«السياسة الشرعية»، أي السياسة المنسوبة للشرع والمنطلقة منه.

الوقفة التاسعة: وردت في مناقشات الأستاذ رضوان عبارات وجمل حول الدولة وطبيعة الحكم في التاريخ الإسلامي والتجربة الإسلامية، ووظيفة الدول في المجتمعات الإسلامية، مثل وظيفتها في سائر مجتمعات العالم؛ إدارة الشأن العام.. إلخ ما قرره الأستاذ في هذا موضوع.

ولكاتب هذه الكلمات رأي في مفهوم الدولة في القديم والحديث. يتمثل ذلك في أن وظيفة الدولة في القديم، سواء في تلك الدولة الإسلامية بكل عصورها من أموية وعباسية وما بعدها، أو غيرها من الدول الفارسية والهندية والرومية وغيرها.

أما عهد النبوة والخلافة الراشدة فهو عهد له طبيعته وخصائصه (لا يتسع المقام للحديث عنه).

فالدولة في العهود القديمة ليس لها علاقة بالشأن العام، كما يعبر الأستاذ رضوان، بل كانت تقتصر وظيفتها على بسط الأمن وحماية الثغور (حدود الدولة)، وتنصيب القضاة، ووجد في الدولة الإسلامية نظام الاحتساب على اختلاف في سعة وظيفته، أما بقية ما يمكن أن يُطلق عليه الشأن العام من شؤون التعليم والصحة والتربية والعمل والتجارة والصناعة والزراعة والشؤون الاجتماعية وغيرها فليس للدولة لها عناية أو وظيفة، بل هي متروكة للناس يديرونها بالطريقة التي يرونها، وقد يكون للأغنياء والأوقاف في هذا أدوار لا تخفى، وإن كان وجد بعض العناية في التعليم في بعض العهود أو عند بعض الملوك والخلفاء كالمدارس النظامية نسبة إلى «نظام الملك».

أما الدولة في العصر الحاضر، فهي التي اعتنت بهذه الشؤون، وجعلتها من مسؤوليتها تعليما وتربية وصحة وتجارة وصناعة وتخطيطا وعمرانا وإيجاد فرص العمل، أو غير ذلك مما يُعرف بالمصالح العامة، فقد أُنشئت له الوزارات والإدارات والهيئات مما هو معلوم في التنظيم المعاصر، بل إن الدولة المعاصرة توسعت في مصالحها ووظيفتها ومسؤوليتها حتى ثقلت عليها، ثم لجأت إلى التخصيص، أي تخصيص بعض المصالح العامة، لتعيدها إلى ما عُرف حديثا بالقطاع الخاص والقطاع الأهلي، أي جعلته من مسؤولية الناس، وليس من مسؤولية الدولة.

ولا شك أن هذا من السياسات الواسعة وميدان الاجتهاد الإداري والتنظيمي فيه واسع، ولا حرج فيه، فباب الأخذ به واسع كما هو معلوم. وهو داخل في التعبير السابق للأئمة المتقدمين «سياسة الدنيا». فقد قالوا: «السياسة ما يُساس به الناس».

الوقفة العاشرة: هناك قضايا أثارها الأستاذ الكبير تستحق المشاركة في النقاش، لم أشأ الإطالة في الخوض فيها، بل حاولت الاقتصار على ما رأيته أكثر تعلقا بموضوع «الإسلام السياسي»، على أنه قد يكون في الوقفات السابقة ما يومئ إلى نوع من النظر فيها.

وفي الختام، فإني أشكر الأستاذ الكبير رضوان (حفظه الله ووفقه) على إتاحة الفرصة لمشاركته في النقاش حول هذا الموضوع، الذي لا يزال محل أخذ ورد. وأسأل الله للجميع التوفيق والهداية للتي هي أقوم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

* إمام المسجد الحرام وخطيبه