الهروب من الجغرافيا

TT

لا بد من زيارة سريعة إلى التاريخ عندما تتفجر أزمة كبرى، خاصة إذا كانت في منطقة جغرافية تكون بعيدة قليلا عن الاهتمامات، فقد يقدم التاريخ حتى لو كان قديما بعض الشيء ملمحا عن جذور التوتر وتعقيدات المشكلة وأطرافها وفي أحيان كثيرة فإن الأطراف الأساسية نفسها تسترجع أحداث الماضي في مطالباتها ومواقفها.

وهذا ينطبق على الأحداث الأخيرة في أوكرانيا التي انتقلت من صراع سياسي داخلي إلى وضع يهدد بأزمة دولية كبرى في علاقات الشرق والغرب تعيد أجواء الحرب الباردة، وقد تأخذ بعدا أكثر من ذلك إذا حدث تدخل مباشر من الجيران خاصة الجار الأكبر روسيا التي تملك مصالح هائلة هناك.

كانت أوكرانيا مثال الثورات البيضاء السلمية، واشتهرت باسم الثورة البرتقالية في نهاية عام 2004 بعد موجة احتجاجات واعتصامات في الميادين استمرت شهورا احتجاجا على تزوير نتيجة الانتخابات الرئاسية وقتها واشتهرت باسم الثورة البرتقالية، وعلى غرارها أطلقت أسماء ألوان على احتجاجات أو ثورات حدثت في مناطق جغرافية كثيرة.

تقريبا عشر سنوات على الثورة البرتقالية التي كانت مصدر إلهام لحركات سياسية مشابهة في بلدان أخرى، لكنها كانت عشر سنوات من الاضطراب والصعود والهبوط، كان أبرز مفارقاتها انتقال رئيسة الوزراء رمز هذه الثورة من الحكم إلى السجن، واستمرار المتاعب الاقتصادية وتفاقم مشكلة الديون، حتى جاء التطور الأخير الذي أطاح بالرئيس المختفي حاليا، ليأخذ شكلا دمويا سقط فيه أكثر من مائة قتيل في الميدان، ولنكتشف أن البلد منقسم بين اتجاهين رئيسين، الأول يتطلع إلى أوروبا أو بالتحديد إلى اليورو، والثاني مرتبط بروسيا ثقافة وتوجها.

حتى خريطة الانقسام الداخلي في المواقف بين الغرب والشرق يفسرها التاريخ المحكوم بالجغرافيا، مثل علاقة بعض الأجزاء المجاورة لأوروبا ببولندا، التي كانت حمها مع الإمبراطورية النمساوية في بعض الفترات، والمناطق الأخرى المجاورة لروسيا والتي تضم المراكز الصناعية، والأراضي الزراعية الخصبة، وخصوصا شبه جزيرة القرم التي كانت روسية أصلا وألحقها الاتحاد السوفياتي السابق بأوكرانيا عام 1954 عندما كانت جزءا من جمهوريات هذا الاتحاد قبل انهياره وتفكك جمهورياته ووراثة روسيا له كقوة عظمى. ويقال إن أقطاب الاقتصاد في أوكرانيا ارتباطاتهم في تعاملاتهم كلها مع روسيا، وإن كانوا ينظرون إلى بروكسل على المدى الطويل.

ولأن التاريخ تشكله الجغرافيا، فإن حالة التشتت والانقسام في التوجه منذ الثورة البرتقالية حكمت السنوات العشر المتقلبة المضطربة، إضافة إلى أن التغير الاجتماعي والاقتصادي في المجتمعات يأخذ وقتا طويلا، وهو شيء واضح في كل دول أوروبا الشرقية السابقة، حتى التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي ولا يزال الفارق كبيرا بينها اقتصاديا وتنمويا، وبين الأعضاء في الاتحاد من أوروبا الغربية.

ولا جدال في جاذبية اليورو القوية بما يمثله هذا الاتحاد الأوروبي من قوة اقتصادية، وفرص مساعدات تساعد على النمو ورفع مستوى المعيشة بالنسبة إلى الشعوب الأوروبية التي ما زالت خارجه وتطمح في الانضمام إليه، لكنه لا يأتي مجانا، فهناك فاتورة صعبة يتعين دفعها من الإصلاحات الاقتصادية التي لا تؤتي ثمارها سريعا وتحتاج تضحية من قبل أجيال. لذلك لم يكن غريبا أن تكون الشرارة التي أدت إلى الأزمة الحالية، وهو الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي الذي تخلى عنه الرئيس الذي عزله البرلمان وفضل عليه حزمة المساعدات الأسهل والأكثر كرما التي عرضتها عليه روسيا، التي كانت تطمح إلى خلق اتحاد اقتصادي يورو آسيوي مع الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفياتي.

وفي الحالة الأوكرانية، فإن الاستقطاب الشديد الحاصل حاليا هو وصفة خراب وتقسيم للبلد، ولا يعتقد أن أي حكومة مستقبلية إذا لم تأخذ الأحداث أبعادا درامية تستطيع الهروب من الجغرافيا إذا أرادت إيجاد صيغة استقرار، فهي سيتعين عليها إيجاد التوازن المناسب الذي يناسب الجغرافيا السياسية لهذا البلد وتركيبته الداخلية، وهو شيء يبدو أن هناك قلقا دوليا منه مع التأكيدات الصادرة بضرورة الحفاظ على وحدة أوكرانيا وحدودها خشية انفصال الأجزاء التي ترتبط بأواصر قوية مع روسيا ثقافة ولغة إذا شعرت أنها مهددة.