الحسقلة وما أدراك ما الحسقلة!

TT

يقولون: إن اللغة العربية جامدة لا تتطور. هذا قول فيه إجحاف كثير. قد يكون ذلك هو الأمر بين النحويين والمتزمتين. بيد أن الشعوب العربية لا تعبأ بما يدعون ونراها كل يوم تستجيب لسنة التطور على هذا الصعيد. نحن نرى كل يوم كلمات ومصطلحات جديدة تدخل في الاستعمال. كالتأميم والتقنين والذهان والعصاب مثلا. منها ما استعرناه من اللغات الأخرى كالنرفزة، ينرفزني، والهستريا يتهستر. وهو في الواقع ما قام به السلف الصالح في عهد الخلفاء حين امتصوا كثيرا من الكلمات الفارسية والإغريقية.

الحسقلة كلمة أخرى اشتقها العراقيون من وزيرهم ساسون حسقيل. ولها قصة طريفة جديرة بالاتعاظ والذكرى في هذه الأيام، أيام الفساد، التي شاع فيها النهب والبوك. وهذه الأخيرة هي الأخرى من مستجدات اللغة التي أطلقها العراقيون على السرقة بالنظر لكثرة شيوع السرقات من أموال الدولة عندهم بحيث احتاجت لاصطلاح خاص.

عندما تأسست المملكة العراقية عام 1920 لم يكن في العراق أي شخص لديه أي فكرة عن إدارة مالية دولة. فأشار الإنجليز على الملك فيصل الأول رحمه الله، بأن يسند هذه المهمة لرجل يهودي عراقي في إسطنبول عرف عنه الإلمام الجيد بالشؤون المالية واكتسب خبرة طويلة من أعماله لدى الدولة العثمانية. اتصل به الملك ودعاه لخدمة بلده العراق. لبى الدعوة وعاد إلى بغداد وتسلم مهمات وزارة المالية لعدة سنوات.

يتذكر العراقيون بصورة خاصة دوره في تحرير اتفاقية النفط مع الشركة البريطانية. كان الإنجليز قد حددوا فيها مبلغ عوائد النفط للعراق بكذا من الباوندات الإسترلينية. ولكنه التفت إلى ممثل الشركة وقال له أضف رجاء كلمة in gold (بالذهب). استسخف الحاضرون هذه الإضافة فقد كانت العملة الإسترلينية على درجة باهرة من القوة. ولكن هذا اليهودي أصر على الإضافة بالذهب، وظل يرددها حتى ملّ الإنجليز منه فأضافوها. بعد سنوات قليلة بدأ الباوند الإسترليني بالتدهور كما نعرف من مصيره. بيد أن الشركة ظلت ملزمة بالدفع حسب سعر الذهب. فكان أن كسب العراق الملايين الإضافية التي لم تكن بالحسبان.

تولى ساسون حسقيل تنظيم الميزانية والشؤون المالية للبلاد ووضع البنية التحتية لها بما أصبح الأساس العملي لمالية العراق حتى الآن، فضلا عن ذلك، وضع أسس وأعراف الحسابات المالية للبلاد بشكل رصين. اشتهر عنه أنه كان يدقق في كل صغيرة وكبيرة من واردات الدولة ونفقاتها وخضوعها للقانون والتعليمات. يدقق في أي بند أو طلب إلى حد الفلس ويرفض الصرف على أي شيء لم يرد له باب أو تخويل. أشيع عنه أنه رفض صرف الكثير من طلبات الخزينة الملكية ونفقات رئيس الحكومة.

بالطبع تضايق العراقيون من تزمته وحرصه وتشدده في المحاسبة وصرف أي مبالغ غير قانونية، فراحوا يصفون أسلوبه المتشدد بالحسقلة اشتقاقا من اسمه ساسون حسقيل. وتسمع العراقيون إلى الآن يقولون لبعضهم البعض «أرجوك تساهل شوية ولا تحسقلها»!