لبنان: رئيس يتمتع بدعم «أكثريات ثلاث»

TT

مَن يصغِ إلى خطب وليد المعلم وفيصل المقداد وبشار الجعفري يُفاجأ بكثرة استخدامهم عبارة «السيادة»... التي يعتبرون «احترامها» بوابة أي تعامل دولي مع سوريا.

هؤلاء، وغيرهم من وجوه النظام الذي ألغى فعلياً أي معنى لـ«السيادة» في بلد يقتل فيه حاكموه شعبه ويمزقون نسيجه الاجتماعي والمؤسساتي، ربما يصدّقون الكلام الذي ينبسون به. ولعلهم ما زالوا يصدقون أنهم عندما يتكلمون عن «السيادة» سيصدقهم من يستمع إليهم....!

اللبنانيون، ساسةً وشعباً وإعلاميين، أكثر تواضعاً. إنهم يدركون في قرارة نفوسهم... أولاً، أن بلدهم ما عاد سيداً مستقلاً، وثانياً أن أحداً لن يصدّقهم إذا خطر لهم واستخدموا التضليل الذاتي «على الطريقة الأسدية».

من دون الحاجة إلى اللف والدوران، يكفي الإشارة إلى أن الجيش اللبناني المفترض به أن يكون سياج الوطن وبوتقة صهر الولاء له، ليس أقوى قوّة مسلحة على أرض لبنان، بل ثمة قوة أخرى أقوى منه بكثير وأعظم منه نفوذاً وأوسع سطوة.

أكثر من هذا، في بلد ولاءاته «الوطنية» تتراجع بمرور كل يوم بل كل ساعة، كحال لبنان، نرى أنه داخل مؤسّسات الدولة نفسها يوجد انقسام واضح يتبع الخطوط الطائفية والدينية، وثمة «تقاسم» شبه معترف به حتى للأجهزة الأمنية الحكومية المختلفة.

وبما يتعلق بالجيش، بالذات، فإنه مرّ بتجارب عديدة خلال السنوات القليلة الفائتة حاول خلالها إثبات حياديته أمام اللبنانيين، غير أن اندلاع الثورة السورية وانقسام اللبنانيين حيالها، ومشاركة حزب الله الفعلية فيها بالتوازي مع عجز الجيش عن التوصّل إلى تعريف لمصطلحات إشكالية مثل «التطرّف» و«الأصولية» و«الإرهاب» و«التكفير» وما إليها... أضعفت ثقة كثيرين بـ«حياده».

صحيح هذا الجانب مطلوب أساساً من المؤسسة السياسية وليس من الجيش أو قيادته، لكن الجيش – شاء أم أبى – بات الملاذ الأخير الذي يتوقّع منه اللبنانيون تقديم شخصيّات جامعة وتوافقية صالحة لتولي الرئاسة من منطلق الاعتدال وتحاشي الاستفزاز.

والحق أن الجيش قدّم بالفعل للبنان فؤاد شهاب، أحد أفضل رؤسائه وأحد قادته القلائل الذين عملوا بصدق من أجل التخفيف من التشنّج والتعصّب وإعادة اللّحمة إلى مكوّنات المجتمع، ومن ثم بناء «دولة المؤسسات». ولقد نجح شهاب، الزاهد بالنفوذ والمال وسليل عائلة الإمارة العريقة، المسلمة الأصل والمسيحية الحاضر، في إعادة بناء الدولة بعد الانقسام المسلح عام 1958. وما زال كثرة من اللبنانيين يذكرونه بالخير على الرغم من تزايد نفوذ الأجهزة الأمنية على حساب سلامة الحياة الديمقراطية في الفترة الأخيرة من حكمه، ومطلع حكم خلَفه شارل حلو.

ومع أن قائداً آخر للجيش، هو الرئيس السابق إميل لحود، ارتضى لنفسه أن يتخلّى عن دور الحَكَم بين اللبنانيين منذ مطلع عهده.. وعمل في ظل هيمنة الجهاز الأمني السوري – اللبناني، يمكن القول إن الرئيس الحالي – وقائد الجيش السابق – ميشال سليمان فضّل العودة إلى سيرة فؤاد شهاب... وحرص على نهج التوافق بعد انتخابه... بموجب تنازلات متبادلة أقرّت في العاصمة القطرية الدوحة قبل ست سنوات.

اليوم هناك عدة أسماء مرشحة للرئاسة، منها لزعماء مسيحيين موارنة من أطراف النزاع السياسي و«صقوره». ومنها أسماء من خارج رقعة الولاءات المعلنة يتوقع مراقبون أن يكون بعضها مطروحاً جدياً، إذا ما برزت «الفيتوهات» المتبادلة، وسادت عند الرعاة الدوليين الرغبة في تجنيب لبنان هزة هي آخر ما يحتاج إليه اليوم... في خضم تفاقم الأزمة السورية وانعكاساتها لبنانياً على الصعد الأمنية والسياسية والاقتصادية والإنسانية.

بعض الأصوات المسيحية – السياسية والدينية – المشكوك بسلامة نياتها، تدعو اليوم إلى انتخاب «رئيس مسيحي قوي». وهذا في الواقع كلام حق يقصد به باطل، لأن المطلوب من الرئيس اللبناني أن يكون رمزاً لوحدة الوطن، وشبكة لأمان المواطن، وضمانة لبقاء مؤسّسات الدولة في خدمة جميع اللبنانيين.

أكثر من هذا، يتجاهل الدّاعون لانتخاب «رئيس مسيحي قوي» أن رئيس الجمهورية هو تماماً كما يعني اسمه رئيس للجمهورية كلها، بعكس رئيس الوزراء السنّي الذي يشغل المسيحيّون نصف عدد مقاعد حكومته، ورئيس مجلس النواب الشيعي الذي يشغل المسيحيّون أيضا نصف مقاعد مجلسه.

إن انتخاب «رئيس مسيحي قويّ» بالمعنى الضمني الذي يقصده المزايدون طائفياً في الشارع المسيحي سيكون خطوة استفزازية محكومة إما بالفشل وإما بدفع لبنان إلى الهاوية. ومن جهة ثانية، يشير تشكيك جهات سنّية بـ«حياد» الجيش إزاء التوتر السنّي – الشيعي، بعد حادثة الشيخ أحمد عبد الواحد في عكار في ربيع 2012، ثم عملية الشيخ أحمد الأسير في صيدا خلال العام الماضي، وعجز الجيش عن منع تحرّك المقاتلين السنة والشيعة عبر الحدود اللبنانية - السورية، إلى أن المؤسسة العسكرية قد لا تكون صالحة الآن – في أنظار كثيرين – لتقديم مرشحين «على مسافة واحدة» من أفرقاء الساحة اللبنانية.

التسهيل المفاجئ في تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام بعد عشرة أشهر وعشرة أيام من التعسّر، شجّع مدمني التفاؤل من اللبنانيين على الاعتقاد بوجود «كلمة سرٍّ» يسّرت الأمور وحلحلتها.

غير أن معركة رئاسة الجمهورية أصعب وأكثر خطورة من التفاهم على تشكيل حكومة عابرة قصيرة العمر أصلاً. فلئن كان بإمكان لبنان التعايش مع «حكومة ظل» مقدّر لها أن تعيش لأشهر قليلة قبل انتخابات الرئاسة، فإن «رئاسة الظل» ستعني القضاء على البقية الباقية من البلد.

في الماضي قال الإعلامي والسياسي الكبير غسان تويني عن حكم لبنان إن «لبنان لا يُحكم إلا بأكثريتين... مسلمة ومسيحية»، وهذا عندما كان النزاع في أواخر عقد الخمسينات محصوراً بين «المسلمين العروبيين» و«المسيحيين اللبنانيويين»...

المبدأ لم يتغيّر كثيراً مع أننا اليوم نعيش «مثالثة» سنية وشيعية ومسيحية. وبالتالي، لن ينجح رئيس ولن يصمد سلام داخلي ولن يقوم قائم للدولة من دون رئيس تقبل به «أكثريات ثلاث» سنّية وشيعية ومسيحية.

أي خيار آخر سيكون قفزة في المجهول، وسيسحب من الرئيس المقبل – ما لم يكن توافقياً – غطاءً فئوياً قد يهدّد أكثر من شرعيته التمثيلية.