جواب مسكت

TT

هناك نوع من مرويات الأدب العربي ينصب على ما سمي «الأجوبة المسكتة»، وهو الجواب السريع الذكي الذي يلجم الخصم من فوره.

تذكرت هذا الفن اللطيف مع خبر المنازلة الكلامية بين مندوب السعودية ومندوب سوريا في جلسة الأمم المتحدة الأخيرة.

المندوب السوري بشار الجعفري، متحدث غزير الإنتاج، يحسن تقطيع الحروف، مع لغة جسد هوليوودية.

في جلسة الأمم المتحدة الأخيرة قال الجعفري عن مأساة الشعب السوري إن هذا «أشبه ما يكون بصناعة فيلم هوليوودي يتوفر له مخرج جيد وممثلون مميزون، وتنقصه الحبكة الروائية المقنعة»، ليرد عليه مندوب السعودية عبد الله المعلمي مغتاظا من استخفافه بهذه المأساة: «إن كان مندوب الحكومة السورية يعتبر أن كل ما يجري لا يتجاوز فيلما هوليووديا، فلعله لا يطمح بالمنافسة على الأوسكار في نهاية هذا الأسبوع».

حسن الرد جاء من توظيف المناسبة بقرب حفل الأوسكار.

لندع الحديث الكئيب عن سوريا، ولنعد إلى ثقافة الأجوبة المسكتة متوقفين عند بعضها.. وهي أجوبة كانت حادة كالشفرة، دقيقة كالإبرة.

قُدِّم للحجاج بن يوسف عدد من الخوارج، فقال: «اضربوا أعناقهم إلا من شهد على نفسه أنه منافق».. فكان أكثرهم لا يشهد فيقتل، وجاء الدور على شيخ عظيم اللحية، فقال الحجاج: «هذا الشيخ لا يمكن أن يشهد على نفسه بالنفاق». فرد الشيخ: «أَعَن نفسي تخادعني يا حجاج! أنا رأس المنافقين»! فضحك وتركه.

في العصر الحديث اشتهر بمصر الشيخ البشري والشاعر حافظ إبراهيم بموهبتهما في هذا المجال.

من نوادر الشيخ البشري أن كان يسمر عند أصدقاء له، وقد علق جبته على مدخل الغرفة، فلما انفض السامر وأراد الشيخ الانصراف، وجد أن أحدهم قد عبث بجبته ورسم عليها وجه حمار، فرد الشيخ بهدوء وهو يرتدي جبته: «من مسح وجهه بجبتي؟». ومما يروى عن الشاعر حافظ إبراهيم أنه كان يعطف على شاعر فقير ويعطيه من ماله، وكان هذا الشاعر الصعلوك نزقا، ومرة جاء ذكر حافظ في مجلس ومدحه الحضور، فغضب هذا الشاعر الصعلوك، وقال: «منْ حافظ هذا، أنا خلقت حافظ؟»، فوصل الخبر لحافظ، ثم بعد فترة جاء الصعلوك يطلب، كعادته، مالا من حافظ، فرد عليه حافظ من فوره: «منين يا حسرة، أنا كما خلقتني»، ففهم الصعلوك المغزى وانفجر بالضحك واعتذر.

كان الفقيه المصري العظيم الشيخ محمد أبو زهرة صاحب ظرف، وكان أثناء تدريسه بالجامعة لا يسمح للطلاب بدخول القاعة بعد بدء المحاضرة.. ومرة دخل أحد الطلاب متأخرا، وكان الطالب متأنقا بوردة على صدر «جاكيته».. دخل الطالب ومضى دون أن يلتفت للشيخ، فنظر إليه الشيخ وقال: «يا أبو وردة»! فرد الطالب سريعا: «نعم يا أبو زهرة»! ليتلقى الشيخ هذا الرد بروح النكتة المصرية ضاحكا ومسامحا.

الكلمات مغاريف القلوب، والحروف مجاديف العقول.. كلما كانت العقول والقلوب صحيحة، توهجت الكلمات أكثر.