.. و«جنيف 3» إلى فشل أيضا

TT

إذا صار لثالث لقاء سوري - سوري أن ينعقد بجنيف، بعد أشهر أو سنوات، فالأرجح أن يصير إلى فشل سبقه إليه أول اللقاءات (يونيو - حزيران 2012) وثانيها قبل عشرة أيام. معذرة، إن كان لا مفر من الاعتذار، فمفاوضات السلام الجادة يمكنها بالتأكيد وقف حروب الكبار فيما بينهم، لأنهم يملكون قرارهم، ولا شك أن بوسعها وضع حد لاقتتال لاعبين صغار يتناحرون على أرضهم، إنما فقط عندما يقرر الجالسون وراء الستار، أن الوقت قد حان بالفعل لإطلاق صفارة انتهاء المباراة الدموية!

كلا، مرة أخرى، ولا أدري كم مرة سبقتها، تعبت من العد، لست أقصد الهروب إلى ملاذ المؤامرة الآمن، حيث إلقاء اللوم ممكن على الجميع عدا النفس، إنما القصد التذكير بواقع يؤكد أنه ليس بوسع الصغار اللعب بلا التزام بشروط الكبار. أليس ذلك من طبيعة الأمور داخل البيت؟ بلى. ألا يؤدي اختلال تلك الطبيعة إلى خلل يضرب صميم عصب العلاقات الأسرية، وربما يوصل لخراب بيوت؟ نعم. أين الاستغراب، إذنْ، إذ يلعب أحدهم بالموازين حوله، فيطفف بميزان وينقص من آخر، وفق الهوى، فإن أتى ناصح ربت على الكتف أولا، وإذا لم يرعوِ المطفف زُجِر، فإن لم يسمع يُضْرب. أين هو العجب؟ حسنا، كلٌ يراه حيث يعتقده، حتى إن بعضا من الناس يَعجب من عجب غيره، فلا يطيقه، ومنهم من يعلن القطيعة، أو يذهب إلى الحرب، فقط لأن رأيا ما لم يتفق معه، وربما لمجرد أن شكل صاحبه لا يروق له.

نعم، أمكن لاتفاق الطائف (30 سبتمبر - أيلول 1989) أن يوقف اقتتال اللبنانيين وحروب الآخرين على أرضهم، إنما بعد خمس عشرة سنة من فيضان دم أغرق لبنان كله، فكان ضغط دوامة القتل ذاته كافيا كي يقبل لوردات الحرب بمبدأ الجلوس حول طاولة تفاوض، ومع ذلك كان لا بد من ضغوط هبت رياحها من جهات الدنيا الأربع كي تقنع المترددين أن يوافقوا على الحضور أولا، والتوقيع ثانيا، فحصل ذلك بحضور اثنين وستين نائبا من أصل ثلاثة وسبعين، وكان أبرز النواب الغائبين ريمون إده وألبير مخيبر، وإميل روحانا صقر.

ومع أن التقدير مُستحق للجهد السعودي أولا، ثم لكل من اجتهد فبذل من الجهد ما أرهق، وصولا لاتفاق الطائف، فقد ثبت فيما بعد أن الرماد بقي مشتعلا تحت مسام أحقاد اختبأت وراء ابتسامات المجاملة وبروتوكولات الدبلوماسية، ولما لاحت فرصة تنفيس عنها، ولو بعد سنين، أكلت ما استطاعت من الأخضر واليابس، وما تزال، ولن تتوقف قبل أن تُطوى ملفات عدة في المنطقة.

ما سبق قوله يوجب في الآن نفسه تذكّر وجود فروق جوهرية بين طائف اللبنانيين وجنيف السوريين. في مقدم تلك الفروق، كما هو معروف، أن الحرب اللبنانية لم يكن طرفاها تنظيمات معارضة ونظام حكم وجه مدافعه نحو مواطنيه، وإنما كانت رحاها تدور بين ميليشيات تعارض بعضها البعض وتتصارع حول حصص ونسب تمثيل في مؤسسات الحكم. لذا، على رغم كل التعقيدات، أمكن إقناع المحتربين بإمكانية بدء سفر الخروج من مستنقع القتل.

القصة تختلف في جنيف السورية. بدءا، لو أن نظام بشار الأسد سعى بجد إلى حل للمأساة قبل أن تستفحل، لما وصل الأمر إلى جنيف. أما وقد خرج جيش سوريا من ثكناته ليقصف مدنها وقراها، فقد كان ذلك إيذانا ببدء اقتتال ما يزال في أول الطريق، وقبل بلوغ نهاية النفق، سواء عبر جنيف أو من دونها، لا مفر من أن يسيل دم كثير. في الأثناء، لا ضرر من التداول الإعلامي لمشاريع حلول، أحدها يجس نبض التقسيم، آخر يقسم أن لا تفريط في وحدة سوريا الجغرافية، ثالث يزعم أنه يحاول جسر المسافة، فيما حقول القتل تتمدد، إذ تحصد آلة الموت أرواح البشر، ومن ألف يرتفع العدد إلى عشرة آلاف، فمائة ألف وأكثر، لا يهم. روائح الموت تزكم الأنوف، أين المشكلة؟ المهم استمرار تلك الحلقة المفرغة (VICIOUS CIRCLE) قتلا وترويعا، بينما الفراغ من حولها تملأه جثث الأبرياء، وفي العراء داخل سوريا وخارجها، يتشرد مئات آلاف البشر، لبنان وحده بلغ نصيبه منهم نحو المليون. كيف سُمِح لهذا أن يحصل، لماذا لم يوضع حدٌ لنظام بشار من قِبل قيصر روسيا منذ شرع في القتل، وكيف فُتحت أبواب سوريا - والنظام نفسه ليس بريئا من ذلك - أمام كل من زعم جهادا ليس معروفا بأي شَرعٍ يفسد في الأرض سفكا للدماء، ثم بعد هذا كله يقال إن في جنيف مشروع حل؟!

لقد كان، وما يزال، بإمكان موسكو أن تضغط على نظام دمشق، وعلى حكام طهران، حتى بعد تبادلهم الابتسامات مع واشنطن، بغية التوصل لتفاهم يسهل لقاء منتصف الطريق مع قوى المعارضة السورية المُعترف بها دوليا. وما دام أن ذلك الضغط لا يحصل، فلا جدوى من لقاءات جنيف، أيا كان الرقم، بل سيبقى منطق كسر العظم هو السائد، حتى لو تهشمت عظام آلاف العزل، وانطفأ بريق الحياة في أعين مئات آلاف، التهمت المقتلة أرواحهم سُدى.

[email protected]