فرنسا حالتها صعبة!

TT

باريس هي قلب أوروبا القارة العجوز، وهي مدينة النور والعلم والآداب، هي مدينة السحر والآثار والتاريخ.

باختصار لا توجد مدينة تأسرك إليها كما تفعل باريس، وأهلها يعلمون ذلك جيدا، ويعلمون أن كل «العالم» يأتي إليها ليعيش لحظات الإبهار ويتغنى بها العمر كله، ولذلك يتحمل زوارها غلاظة أهلها وسوء خدماتها وعصبيتهم أحيانا.

فرنسا وباريس تحديدا هي عنوان كل ما كان جميلا وينتمي للأمس المبهر، لا توجد مدينة تبهرك مثل باريس بتخطيطها وآثارها وقصورها ومبانيها وأشجارها وحدائقها وزخمها، ولكن كل ذلك هو جزء من تاريخها وليس من حاضرها، وإن كانت باريس تمكنت من أن توظف هذا الأمر «سياحيا» و«خدميا» بامتياز حتى أصبحت هي المقصد السياحي الأول في العالم بلا جدال ولا منافسة، ولكن معاناة الفرنسيين النفسية أنهم يعيشون في أحد أهم البلاد في تاريخ البشرية والإنسانية؛ بلاد قدمت للعالم نابليون وباستور وفولتير وهوغو والسوربون واليوم تئن تحت أزمات اقتصادية خانقة ومتلاحقة ونسب بطالة خطيرة وعنصرية متزايدة ومتشنجة تزيد من حال التوتر بين المهاجرين والفرنسيين مما يزعزع السلم الاجتماعي، إضافة إلى ذلك تعاني فرنسا من تبعات دورها المتناقص على صعيد الساحة الدولية والأوروبية وهي التي كانت صاحبة الإمبراطورية الهائلة التي انتشرت لتغطي أفريقيا وآسيا (شنغهاي وكمبوديا مثلا كانتا جزءا من الإمبراطورية الفرنسية) وصولا لأميركا الجنوبية ودول في المحيط الهادي والشرق الأوسط وكانت اللغة الفرنسية اللغة التجارية الأولى في العالم.

كل ذلك تناقص واضمحل وتدهور لصالح دول مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين وإنجلترا وألمانيا. اليوم الصين في أفريقيا باتت قوة أكثر تأثيرا وفعالية من فرنسا في مكان كان تقليديا يعد من النقاط الجغرافية «التي لا يحكى فيها» باعتبارها جزءا من مناطق النفوذ الفرنسي.

في أوروبا الثقل كله انتقل لعدو الأمس وحليف اليوم ألمانيا، فهي التي تحسم وتقرر في الشؤون المالية والاقتصادية والسياسية، وما ظهور المسؤول الفرنسي بجوار المسؤول الألماني إلا لأجل «كمالة الصورة».

الشركات الفرنسية العملاقة بحاجة لقوة خارجية لإبقائها على قيد الحياة، فها هي رينو للسيارات تعتمد على تحالفها مع عملاق السيارات الياباني لإبقائها على قيد الحياة في تحالفهما الاستراتيجي، والآن ها هي شركة بيجو للسيارات تبيع حصصا مهمة في الشركة لصالح مصنع سيارات صيني رئيس، وما ينطبق على قطاع السيارات ينطبق على غيره من القطاعات.

اليوم فرنسا تركز وبقوة على قطاعات لها فيها مزايا تنافسية مثل قطاعات الأزياء والفخامة والتجميل والمجوهرات والأمن والدفاع والطب والسياحة والزراعة، ولكن وضع البطالة، والضرائب المتزايدة، ورغبة فرنسا الانفصالية أن تكون دولة اشتراكية تارة ودولة رأسمالية تارة أخرى.. هذا التردد يسيء لمناخ الاستثمار والاقتصاد عموما، وكل هذا أدى إلى تقهقر فرنسا بهذا الشكل الكبير.

فرنسا تقهقرت في مجالات كانت تعتبرها جزءا من هويتها مثل الأدب والعلم واللغات، فاليوم «انتصرت» الإنجليزية على الفرنسية لتصبح هي لغة العالم الأولى، تجارة وعلما وأدبا، وتراجعت جامعاتها لحساب جامعات أميركية وكندية وأسترالية حتى، وهو الأمر الذي يشكل صدمة حضارية للفرنسيين، فهذه دول هي «أصغر» عمرا من بعض الجامعات الفرنسية نفسها.

فرنسا تبحث عن نفسها وتبحث عن هويتها مجددا وتتساءل هل هي دولة «فرنسية» فقط أم أوروبية متنوعة، أم هي جزء من حضارة كانت هي ترعاها وعليها أن تقبل نتاجها فتكون هي نفسها واجهة لعولمة بناسها وثقافتها، حتى الآن لم تستطع فرنسا أن تجيب عن هذه الأسئلة الحرجة والمهمة، فهي ترغب في لعب دور عالمي لا تستطيع أن تتحمل تكلفته اقتصاديا وتعاني مر المعاناة من عدم قدرتها على نشر فلسفتها وتراثها وعلومها التي تعتبرها بكل أمانة أنها الأفضل ولصالح البشرية جمعاء.

المدهش أن كل ما قيل إلى حد كبير ينطبق أيضا على معاناة العرب مع أنفسهم لأنهم اليوم نتاج التاريخ المجيد الذي تغنوا به ولكنهم غير قادرين على أن يكونوا مؤثرين، والتمعن في إجابات فرنسا عن «أسئلتها» العويصة قد يكون مدخلا لحل بعض معضلات العرب مع أنفسهم! ولكن تظل باريس أجمل مدن العالم.