لكي لا تفشل الثورة السورية

TT

كان واضحا عند انتهاء مؤتمر «جنيف 2» في جزئه الثاني أن النظام السوري ليس في وارد التفاوض حول مستقبل رئيسه، ولا حتى في وارد التفكير في الموضوع. وكان واضحا ضعف الموقف الأميركي، وقوة الموقف الروسي، وكانت كذلك معبرة تماما ابتسامة المسؤولين الإيرانيين، ومقابلها غضب المسؤولين العرب الداعمين للثورة السورية، بل حتى الوسيط الإبراهيمي المتفائل دوما قال: إنه يعتذر للشعب السوري! هذه الصورة السريالية الخارجة من جنيف ليست إلا تعبيرا عن تبدل في موازين القوى قد يسمح، إذا ما استمر، ببقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة، وإلى تحولات جذرية في العالم العربي.

لا يوجد مستحيلات في السياسة بل توجد حقائق يخلقها المتصارعون على الأرض من خلال استفادتهم من العوامل الإقليمية والدولية، والتفافهم حول قياداتهم وإيمانهم بقضيتهم. ولا بد من الاعتراف أن بشار الأسد، وبمساعدة من حلفائه الروس والإيرانيين، استطاع أن يغير الكثير من المسلمات ومنها الواقع الدولي والميداني. ولكي لا نطيل الكلام في الشأن الدولي الذي أصبح معروفا يكفي القول إن إدارة الرئيس أوباما، حسب المؤشرات، لا تزال مؤمنة بأنها لن تتدخل عسكريا، ولن تسمح بتسليح المعارضة، ولن تتدخل بشكل فاعل حتى ولو سلميا، مما يعني عمليا ترك الورقة السورية بيد الروس، كما عبر عن ذلك وزير الدولة السابق في وزارة الخارجية البريطانية أليستر بيرت الذي انتقد بشدة تصويت البرلمان البريطاني ضد عمل عسكري داخل سوريا. يقابل هذه الرؤية الأميركية موقف أوروبي حاسم ورافض للخيار العسكري، وداع إلى حل سلمي (وهمي)، وزيادة في المساعدات إنسانية علاوة على قبول بضع مئات من السوريين في بلدان الاتحاد!

على عكس هذه المواقف الغربية كان الموقف الروسي صريحا وجازما بأنه لا يقبل بإزاحة الرئيس بشار الأسد، وأن الثوار هم جماعة من الإرهابيين، وأنه على المعارضة أن تنضم إلى النظام السوري وتقاتل الإرهاب؛ في القاموس الروسي لا يوجد ثورة في سوريا بل إرهاب، ولذلك فإن روسيا لم تتردد في تقديم كل أشكال الدعم العسكري بحجة أن نظام الأسد هو الحكومة الشرعية وأنها تلتزم بعقود أبرمتها معه. كذلك يلتزم الإيرانيون بمساعدة النظام السوري لأنهم يرون حسبما يدعون أن المعركة هي مع الإرهاب ومع أعداء خط الممانعة، ولم يغطوا موقفهم الداعم بورقة التوت بل مضوا قدما في تقديم الدعم المالي والعسكري وأخيرا الدخول مباشرة في القتال من خلال حزب الله وبعض الميليشيات الشيعية العراقية.

على الجهة المقابلة تجد الثورة السورية ممثلة بتياراتها المتعددة نفسها في مأزق حقيقي لأنها لا تزال عاجزة عن التكتل، وغير قادرة على إفراز قيادة عسكرية وسياسية تليق بتضحيات هذا الشعب الهائلة. ففي المجال العسكري يتقدم النظام السوري في كل الجبهات وبالتحديد في حلب التي استطاع النظام أن يفك الطوق المضروب على قواته في الشطر الغربي منها ويفتح خطا مباشرا للإمدادات يربطها مباشرة بدمشق، ويحاول الآن الالتفاف شرقا على الثوار لمحاصرتهم كما فعل مع نظرائهم في حمص التي هي الأخرى على وشك السقوط بعد سنوات من الحصار والتجويع والقصف والقتل. وحسب المعلومات المتوفرة فإن من الأسباب وراء هذا التقدم إذا ما استثنينا القتال مع تنظيم دولة العراق والشام (داعش) يعود بالدرجة إلى عدم امتلاك الثوار بشكل عام الخبرة العسكرية ولا الأسلحة المتقدمة وما يستتبعها من معرفة تقنية بها، بل توجد كوادر عسكرية تتلقى أسلحة ثقيلة من الداعمين الخارجيين ولا تعرف كيفية الاستفادة منها بالشكل المتوقع. كما أن الثوار في كثير من الكتائب المقاتلة ينقصهم الانضباط، والتمحور حول القيادة، ويرفضون أي تعليمات من قادة عسكريين، ولا يتلقون تدريبات مستمرة لرفع اللياقة البدنية والقدرة الميدانية. وليس سرا على الإطلاق القول إن كثيرا من التشكيلات العسكرية تسعى جاهدة لكسب التمويل من الخارج من خلال إظهار نفسها على أنها قادرة عسكريا على القتال، وأنها جاهزة لتحقيق انتصارات إذا ما تأمن لها الدعم، ويلجأ بعضها إلى ما يمكن تسميته معركة الكاميرات فتصور إطلاق الصواريخ، وتحملها على شبكة الإنترنت لتعظيم دورها.

يقابل هذا الضعف التنظيمي بروز ظاهرة «داعش» التي دخلت في معارك مع الكتائب الإسلامية الأخرى، ومع تشكيلات الجيش الحر، وبالتالي استطاعت أن تشتت الجهود، وتسمح للنظام بالتقدم باتجاه حلب، وإحراز انتصارات يمكن إذا لم تواجه بشكل فاعل أن تؤدي إلى سقوط حلب بالكامل، لأن النظام حسبما يبدو يركز على العاصمة ولا يولي الريف الشمالي بالا في الوقت الحاضر. وتقول معلومات إن هذا التقدم العسكري للنظام سببه اضطرار كثير من مقاتلي الريف الحلبي الذين يقاتلون في حلب إلى التراجع إلى قراهم ومقاتلة تنظيم «داعش» المتميز بانضباطية عالية، وقدرة متميزة في استخدام السلاح، والتخطيط العسكري. ورغم كل الحملات التي قامت بها الكتائب المسلحة، وأحزاب من الجبهة الإسلامية، إلا أن تنظيم «داعش» استطاع الصمود، بل يتقدم على حساب الجيش الحر والكتائب المسلحة الأخرى.

هذا الواقع ساهم في تغيير التكتيك الإقليمي حيث عززت الدول الداعمة للثورة دعمها للكتائب التي تقاتل «داعش» وبالتحديد جبهة ثوار سوريا بقيادة جمال معروف على اعتبار أن هذا من شأنه أن يهدئ المخاوف الغربية، ويمنع انتشار ظاهرة التطرف. لكن هذا الدعم يبقى محدودا، وغير متوفر لكتائب أخرى، مما يؤخر عملية الحسم مع «داعش»، ويوفر مزيدا من الفرص للنظام على أرض المعركة. كما أن تعدد داعمي الائتلاف والمعارضة ساهم في تشتت الوضع على الأرض، بحيث يعمد كل فريق خارجي لدعم المناصر له، وأحيانا قد يؤدي الاصطفاف وراء الدعم الخارجي إلى اختلاف داخلي على الأرض، وما حصل في هيئة الأركان ليس ببعيد، حيث رفض اللواء سليم إدريس قرار عزله، وأعلنت تشكيلات مسلحة عن ولائها له واستمرارها تحت قيادته. علاوة على ذلك فإن الأكراد يشكلون حالة مستعصية بانكفائهم على الذاتية، والاستفادة قدر ما أمكن لتشكيل حالة انفصالية والتلاعب على التناقضات بين النظام والمعارضة.

في خضم هذا التخبط لا يزال النظام السوري قويا في الرقة بوجود الفرقة 17 المتمرسة خارج المدينة، والقادرة على اقتحامها وقت ما تشاء، ولا يزال مطار دير الزور العسكري بيد القوات النظامية السورية، ولا تزال القوات الحكومية موجودة في كثير من المناطق المتاخمة للأردن التي لا بد من تطهيرها لفك الحصار عن ريف دمشق. فالنظام السوري نجح في قضم الريف الدمشقي شيئا فشيئا، واعتمد سياسة التجويع، والترهيب والإغراء لمد نفوذه فوق تلك المناطق، لدرجة أنه توجد الآن في بعض المناطق في الريف الدمشقي حواجز مشتركة بين الجيش الحر وقوات النظام. هذه السياسة التي يتبعها النظام أحدثت هي الأخرى خلافات داخل الكتائب المسلحة لأن بعضها يرفض أي اتفاق بينما ترى أخرى أنه لا بد من ذلك في خضم سياسة الحصار والتجويع والقصف.

هذه الصورة السريالية للوضع السوري تكشف عن مستقبل قاتم لهذا الشعب المسكين، لكن تلك الصورة تبقى مجرد صورة خاضعة للتبدل، وأن المقاتلين، والداعمين الخارجيين للمعارضة السورية قادرون على استبدال أخرى أكثر فاعلية وتفاؤلا بها. لكن هذا يبقى رهين الفعل وليس الكلام، وبداية ذلك على المعارضة السياسية (الائتلاف الوطني) أن تحسم أمرها، وتعمل على تلافي مكامن الضعف هذه، وتركز أولا، على خلق حالة انضباطية، وتدريب المقاتلين بما يتناسب، وخلق قيادة عسكرية موحدة خاضعة للقرار السياسي الموحد وتقاتل وفق خطة شاملة، وثانيا، أن تقنع الداعمين الخارجيين بإيجاد رؤية مشتركة لتوحيد الداخل السوري، وثالثا، العمل الفاعل لاستقطاب كل الجماعات الإسلامية المعتدلة، والاستجابة لمخاوفها، وتوحيدها في الإطار العسكري من أجل طرد كل التنظيمات المتطرفة، لكي يتفرغ الجميع لمواجهة النظام السوري بهدف منع انتصاره، وإجباره على القبول بحكومة انتقالية تحمي الجميع، وتجنب سوريا خيار التدمير وتبعد العرب عن خيار الاحتراب الداخلي.

* كاتب لبناني مقيم في لندن