وسبقت الفوضى وقف الحرب

TT

في مثل هذا اليوم قبل 23 عاما، كنا في المقر البديل للاستخبارات العسكرية في منطقة العطيفية ببغداد، على مسافة مئات الأمتار عن المقر المركزي الذي حولته الغارات الجوية والصاروخية لقوات التحالف إلى كوم من الحجارة. وكنت أتابع خطاب الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، الذي تضمن وقفا لإطلاق النار. وفي مثل وقت صدور عدد هذه الجريدة تقريبا، اتصلت بالمقر المتقدم للقيادة العامة للقوات المسلحة في البصرة، وتحادثت مع وزير الدفاع الفريق أول الركن سعدي طعمة ورئيس أركان الجيش ومعاونه للعمليات، واقترحت عليهم التحسب لاحتمال صدور قرار من بغداد حول الموضوع، وكنت قد اتصلت بسكرتير الرئيس وأبلغته بعرض بوش. وكان رد اثنين من القادة العسكريين الثلاثة طبيعيا وهادئا ومنطقيا، وهو: ما هو رد الفعل المتوقع للرئيس؟ فقلت ما حدث لاحقا. أما الثالث فعبر عن أسف..

بعد فترة وجيزة حضر صدام إلى المقر، وخلاف عادته «في ظروف الحرب» أخذ يتكلم بالهاتف، معلنا قبول وقف إطلاق النار، ومنتهيا بعبارات «التحدي المعتادة»، إلا أن الوقائع على الأرض كانت تسير بشكل كارثي، فقد أقرت القيادة السياسية المصغرة يوم 25 فبراير قرارا بالانسحاب، من دون أي خطط عمليات، «فسبقت الفوضى وقف الحرب» وعمت على طول خطوط الانسحاب. وفي اليوم التالي، تفجرت الانتفاضة من ساحة سعد في البصرة. وسألني صدام: كيف يرى اللواء وفيق حربنا هذه؟ ودعوني أعترف بأن إجابتي لم تكن تعبيرا عن «شجاعة خارقة»، بل نتيجة شعور بإحباط عظيم، فقلت له: إنها أكبر هزيمة في التاريخ! فغضب، إلا أنه لم يتجاوز بكلمة واحدة! وأذكر هذا شهادة لله وليس لغرض دنيوي..

لم يكن صدام ولا قيادته يتوقعون حدوث انتفاضة، على الرغم من أن الاستخبارات قد توصلت إلى ما سيحدث تحريريا قبل بدء الحرب. وأظهرت الانتفاضة التي اشتعلت في الأول من مارس (آذار) خطل حسابات القيادة، ومهما قيل عن الانتفاضة وظروفها والتدخلات الإيرانية، والمرحلة التي اشتعلت فيها، فإنها كانت ثورة شعب على حكومة لم تترك لها أخا ولا صديقا، وغدرها بالكويت كان مثالا صارخا لنكران الجميل. وتمكن المنتفضون من السيطرة على كل محافظات الجنوب خلال بضعة أيام، مع بقاء وحدات من القوات المسلحة هنا وهناك في حالة تماسك بين مدن الجنوب، وتمكنت قوات البيشمركة على قلة عددها من السيطرة على كل المدن الكردية والسيطرة على مدينة كركوك.

وأدركت الدول العربية خطورة الموقف ولم تتدخل بأي شكل عدا سوريا التي قدمت - عن طريق إيران - دعما تسليحيا بالعتاد للمنتفضين. أما الأميركيون فالتزموا قرار وقف إطلاق النار بدقة، ويمكن تفسير بعض مواقفهم بأنها تظهر بعض التعاطف مع النظام، ومنها السماح له باستخدام الهليكوبترات المسلحة، ولم يكونوا مع المنتفضين في الجنوب. وهو ما تسبب في إعادة ترجيح قوة النظام، الذي استخدم قسوة مفرطة لفرض السيطرة في حالات ومناطق مختلفة.

لغة الأرقام الكبيرة أعمت بصيرة النظام السابق، ولم يأخذ القياسات العملية دليلا في حساب المعادلات، والاستهانة بالعدو هي من أبرز أخطاء صدام المدمرة، على عكس الحسابات العسكرية تماما. فالدارج في الحسابات العسكرية التقليدية أن يحسب التقدم وفق سرعة أضعف جندي يشكل جزءا من قوة صولة، وكان المفروض أن تحسب قوة صمود الجيش في ضوء التقديرات العسكرية وتقارير الاستخبارات، وليس وفقا لحسابات سطحية بعيدة عن الخبرة العملية والنظرية. وتكررت هذه الأخطاء على المستوى السياسي والقراءات الخاطئة لطريقة التعامل في مجال أسلحة الدمار الشامل وغوغائية تدمير كثير منها بمعزل عن المفتشين.

وبعد 23 عاما، نلاحظ من يحاول التغني بتلك الأيام، فعن أي مجد يتحدثون وقد كان العراقيون يعيشون تحت قسوة داخلية مفرطة، وإثارة عداوات خارجية، وجهل قاتل في تقييم قدرات العراق الاقتصادية؟ وكل ما يحدث اليوم سببه سياسة النظام السابق، لأنه من مؤديات تلك المرحلة، ولولا معارضتي للنظام لشعرت بلوم نفس شديد، ولـ«حرقت» أوراقي وذكرياتي كلها، مع إعطاء العذر لمن لم يعارض بسبب قسوة الظروف. ومن الواجب الأخلاقي الإشادة بالدور العربي عموما والكويتي خصوصا تجاه العراق، ولا بد من أخذ الانتفاضة الشعبية بإطارها الوطني الكبير، فهي ثورة على الطغيان، بصرف النظر عما قيل هنا وسيقال هناك.