ودفع الأمير فدية من المال !

TT

العنوان السابق جاء من التاريخ القديم نسبيا لعلاقة العرب بروسيا. وقت الدفع كانت روسيا القيصرية والزمان أواخر القرن الثامن عشر، عندما احتلت قوات روسيا القيصرية شريطا من شمال فلسطين الحالية إلى بيروت، فيما سمي حملة الشرق، وحاصروا بيروت حتى (أكل أهلها الخيل والحمير والكلاب) كما يحدث للسورين في حمص الآن! فما كان من الأمير يوسف الشهابي وقتها إلا أن دفع فدية من المال، مقدارها ثلاث مائة ألف قرش لقائد الأسطول الروسي، فخرج الروس من بيروت!

وفي بداية القرن العشرين وقعت روسيا القيصرية مع القوتين العالميتين وقتها، فرنسا وبريطانيا معاهدة لاقتسام المشرق، بعد سقوط الخلافة العثمانية، سميت تاريخيا (سايكس بيكو) وكان من نصيب روسيا القيصرية في تلك المعاهدة تقريبا نفس الشريط من الأرض التي احتلتها عام 1772 ودفع المال لإخراجها، الاضطراب الذي صاحب الثورة البلشفية عام 1917 هو الذي جعل روسيا تنسحب من الاتفاق، وحتى تفضحه، في غمرة انتصار (عمال العالم) على الظلم! سرعان ما عاد الاتحاد السوفياتي، بعد أن قوي عوده، إلى شهية البحار الدافئة، في صورة مختلفة ظاهريا ولكن يحمل نفس الرغبة القديمة الجديدة.

الأفكار القديمة تموت ببطء، مع تفكك الاتحاد السوفياتي في تسعينات القرن الماضي، وتقلص مجال نفوذه، ومع عودة الاعتراف بمن أعدمه الثوار في عام 1918 بدم بارد هو وأطفاله من عائلة رومانوف، القيصر نيقولا الثاني، وإعلانه قديسا في عام 2008! ترتبط حلقات التاريخ، وتعطينا تفسيرا لموقف روسيا بشراكة متبادلة بين السيد فلاديمير بوتين – وديمتري ميدفيديف، تجاه المذابح التي تجري في سوريا.

تتدفق التحليلات محاولة تفسير موقف روسيا الحالية تجاه الوضع المأساوي في سوريا، البعض يذهب في تبرير ذلك إلى مصالح اقتصادية تربط روسيا بسوريا، والبعض الآخر يتحدث عن النفوذ الذي ترغب روسيا في أن تحتفظ به شرق المتوسط والبعض يفسر الموقف الروسي، الذي لا يأبه بكل هؤلاء الضحايا من العرب السورين، لسبب آيديولوجي، هو الوقوف أمام مصالح الدول الغربية والولايات المتحدة، وقد تكون كل تلك العوامل صحيحة، إلا أنها عوامل ثانوية، فمع استدعاء التاريخ الذي لمحنا إلى جزء منه سابقا، نستطيع أن نجد تفسيرا أكثر واقعية، يجمع كل تلك الحزمة من العناصر أنه (محاولة البحث عن انتصارات).

في عمق روسيا الاتحادية هناك شعور بالخسران، خسران إمبراطورية قيصرية سابقة وأيضا لاحقة هي الاتحاد السوفياتي، لقد كانت تربط روسيا بجوارها في المرحلتين الإمبراطورية، حبلا من الآيديولوجيا، في وجود تلك الآيديولوجيا توحدت أو وحدت شعوب مختلفة ثقافيا ودينيا وعرقيا، مع غياب الآيديولوجيا، لا يربط الشعوب المجاورة لروسيا غير الجغرافيا، وهي بحد ذاتها لا تجمع عن قناعة أو عن قسر، أيا من تلك الشعوب. ما حدث في أوكرانيا أخيرا وقبلها جورجيا وقبلهما ليتوانيا ومولدوفا وشبه جزيرة القرم هو سلسلة من الخسائر المتتالية، في الوقت الذي لا تجد روسيا لديها من القوة المعنوية ما تعوض به تلك الخسائر الفادحة في الجوار.

أحداث أوكرانيا الأخيرة تذكر الروس بعجزهم عن ربح المعركة التي يخوضونها؛ فهم لا يستطيعون العودة إلى آيديولوجيا سابقة، قيصرية أو سوفياتية، تعيد لهم ما كان من نفوذ، كما لا يستطيعون أن يتقدموا على طريق الديمقراطية التي هي كعبة الإنسانية في القرن الواحد والعشرين.

التبادل بين شخصين في الموقع الأول والثاني على رأس الاتحاد الروسي لكل هذه السنوات يبدو للمدقق أنه أضحوكة، لكنها لا تضحك قطاعات أكثر وأكثر من شعوب الاتحاد الروسي، بل هناك قوى تنظم نفسها لمقاومة تلك الأرجوحة (الديمقراطية) الشكلية، وأخذت الاختلافات العرقية والدينية والسياسية والقومية تطل برأسها في الجسم الباقي من الاتحاد الروسي، وتظهر بوضوح ندوبا غائرة على وجه سياسات بوتين، وميدفيديف.

تقول بعض التحليلات إن طول زمن الإمبراطورية الروسية وبعدها إمبراطورية البولشفيك، تركت ثقافة عميقة في تقبل الشعوب التسلط والمركزية، وربما حتى عبادة الشخص، قد يكون ذلك صحيحا في ثقافة الجيل الذي تقدم في العمر، ولكن تأثير العولمة مثلها مثل عشق الحرية، تسري اليوم في الأجيال الجديدة في روسيا وحولها، وتظهر ضعف الأفكار والقدرات السابقة على الإبقاء على بنيان يفتقد الأكسجين الذي يعم العالم وهو الحرية.

يبقى شعار واحد يتمسك به القائمون على السلطة في الاتحاد الروسي، سواء تجاه ما يحدث في سوريا، أو ما يحدث في أوكرانيا، هو محاربة الإرهاب! ويحاول الدبلوماسيون الروس أن يقنعوا الآخرين بهذا الملف، كما فعل وزير الخارجية الروسي الأسبوع الماضي مع وزراء خارجية الخليج الذي انعقد في الكويت. إلا أن هذا الملف مثل ملف (احترام صندوق الانتخاب) الذي يشهره الروس في وجه الثوار الباحثين عن الحرية في أوكرانيا، ملف هش، فكلا الحدثين الأوكراني والسوري كان مساعدا لهما، في الأولى التسلط والفساد، وفي الثانية أيضا التسلط والفساد. وفي كلاهما فقدان الحرية.. البضاعة التي تفتقدها روسيا!

البحث عن انتصارات لجمهورية روسيا الاتحادية يستخدم الطرق البالية والتي لا تناسب العصر، دعم الديكتاتورية، إنها مضطرة لأن تقوم بذلك، حيث إن الأدوات الجديدة ليست في متناول يدها، فهي تخسر، وربما خسارة أوكرانيا سوف تجر معها سلسلة من الخسائر في الجوار الجغرافي، استخدمت المال والإغراء الاقتصادي لتأخير أوكرانيا عن ركب الحرية، واستخدم السلاح والفيتو في مجلس الأمن لتأخيرها عن الشعب السوري، في الوقت الذي بدأت شعوب في هذا العالم زحفها إلى الحرية وهي لديهم أهم حتى من الخبز، لأن الأولى قد تأتي بالثانية، ولكن غياب الحرية ليس بالضرورة يأتي بالخبز.

دعم روسيا الاتحادية للنظام السوري تحت شعارات غير مقنعة في الوقت الذي تنتهك فيه إنسانية السوري إلى درجة غير مسبوقة من التجويع والقتل والتشريد، حتى فكر بعضهم بأكل لحم جاره من الجوع، عمل غير مبرر ولا أخلاقي كما لا يحقق أي انتصار روسي، إنه خسارة محققة، ولن يجد الروس هذه المرة أميرا يدفع فدية من المال، كي يرفعوا أيديهم، يكفي ما أريق من الدم السوري! ويكفي أنهم يحاربون معركة خاسرة!

آخر الكلام:

بسلاحين استطاعت الإمبراطوريات الروسية قهر الشعوب والثقافات المجاورة، أغرقها بالديمغرافيا (تسكين الروس) وفرض اللغة الروسية، الجمهوريات الجديدة تتحرر من الثانية وبذلك تتحرر من الأولى.