من قال لا أعلم فقد أفتى

TT

صادفت والدكتور مأمون فندي صديقة أكاديمية تحمل درجة الدكتوراه في العلوم السياسية ومسؤولة في معهد شهير للدراسات الدولية الغربية التي يهتدي بها صناع القرار غربا وشرقا ويتابع الباحثون الشرق أوسطيون ندوات المعهد وبحوثه كمرجعية يستشهدون بها عندما ينازلون خصومهم في برامج التلفزيون التي لا يفوقها انتشارا في المنطقة سوى هجمات الجراد ودودة القطن في مطلع الصيف في مصر.

الصديقة ترأس قسما يضم باحثين وباحثات بخلفيات أكاديمية بجانب عشرات من الباحثين الموسميين. كانت في مصر مع دبلوماسيين بريطانيين وأميركيين وأوروبيين ضمن برنامج يموله صندوق أميركي لدراسات الديمقراطية في إطار بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا MENA (الأحرف الأولى من كلمات المنطقة) وليس فقط بلدان التغيير الثوري المسماة في مغالطة تاريخية جغرافية اثنوغرافية ببلدان «الربيع العربي».

البرنامج بدا منذ 18 شهرا باعتبار أن التعاون مع مصر لعقد مؤتمر إقليمي في نهاية 2014 قاعدة محورية لتطويره اتفاقا (بمباركة إدارة الرئيس أوباما) مع حكومة الإخوان المسلمين وقتها بتوصيات من السفيرة الأميركية السابقة آن باترسون في إطار تفكير أميركي استراتيجي غربي بأن الإخوان «إسلام سياسي معتدل» يمكن عقد صفقة معهم في حالة دعمهم للتمسك بالحكم لفترة طويلة جدا (مما يدل على فساد النظرية لتناقضها مع مبادئ الديمقراطية الأميركية بتداول الحكم حيث لا يسمح الدستور لرئيس أميركي بأكثر من إدارتين فقط) مقابل تقييدهم حركات الإرهاب «الجهادية»...

لكن حركة الجماهير المصرية في الصيف الماضي وإطاحتها بالإخوان اضطرت المشرفين على البرنامج للتعامل مع الواقع، خاصة أن كراهية الجماهير والمؤسسات الاجتماعية والسياسية والثقافية لـ«الإخوان» وتعليق لافتة «جماعة إرهابية» حول رقابهم (قبل قرارات المحاكم القضائية والحكومات) لم تقتصر على مصر بل شملت المنطقة بما فيها أكثر المجتمعات العربية التزاما بالشريعة الإسلامية.

ولأن مناسبة اللقاء صادفت استقالة حكومة الدكتور حازم الببلاوي في القاهرة، لحت الصديقة الأكاديمية علينا لقضاء ساعة لمناقشة الوضع في مصر.

كنا في منطقة سكن الدكتور فندي - الذي لم تفلح جنسيته الأميركية أو تعليمه وثقافته الأميركية في انتزاع «الصعيد الجواني» من وجدانه - فأشهر في وجهي تقاليد كرم الصعيد واستضافنا على مشروب في أوتيل مجاور.

أثير في المناقشة وجود أكاديميين في عدد من مراكز الدراسات الغربية (أحدهم كانت مسؤولة عن دراسات المنطقة في معهد صديقتنا) بينما هم في الواقع ناشطون أو أعضاء في التنظيم الدولي لـ«الإخوان» وكلهم أبناء وبنات الجيل الثاني أو الأول من مؤسسي الجماعة. الـ«بي بي سي»، وهي مكون الثقافة السياسية لمعظم الصحافيين الذين يقتحمون عالما أو منطقة جديدة عليهم (كأوكرانيا هذه الأيام) لا تذكر هذه الحقائق عند انتحال أعضاء في التنظيم الدولي لـ«الإخوان» لصفة أكاديميين، ويقدمون على أنهم «خبراء» أو «دارسون سياسيون» لتاريخ الحركات الإسلامية أو سياسة وتاريخ مصر أو منطقة الشرق الأوسط. أي تضليل المشاهد أو المستمع، عمدا أو غفلة، بشأن حيادية وموضوعية وحتى مؤهلات هؤلاء الذين أيضا تتحول مداخلاتهم إلى مرجع لمعظم المراسلين قليلي الخبرة بالمنطقة ويرسلون إليها لتغطية الأحداث.

وأناشد قراء «الشرق الأوسط» الاستعانة ببرنامج الآي بلاير i - PLAYER عبر الإنترنت على مواقع الـ«بي بي سي» الإنجليزية ويحكمون بأنفسهم على مدى حيادية منتحلي صفة الأكاديميين بينما مداخلاتهم هي بروباغندا لترويج برنامج وآيديولوجية الإخوان وتبرير الإرهاب وطرحه كأنه رد فعل على ما يسمونه انقلابا عسكريا واعتداء على «الشرعية». ولو كانوا بالفعل مؤرخين أو خبراء في تاريخ حركات الإسلام السياسي لكانوا خاضوا في معلومات موثقة بأن العنف والإرهاب، سواء كوسائل جهادية أو نظام ممارسة سياسية، هو جزء لا ينفصل عن آيديولوجية الجماعة منذ تأسيسها.

راية الجماعة مثلا سيفان متقاطعان وكلمة أعدوا.. (أولى كلمات الآية «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ…».) والاحتفاظ ببقية الآية خارج الراية فيه دلالة على أن عمل الجماعة (بشعار آخره «والجهاد سبيلنا») من جزأين.. المعلن الذي يحتمل عدة تفسيرات في ظاهره، والسري وكله عنف. التنظيم السري شعاره المسدس والخنجر، وهو النقطة التي أريد الوصول إليها وكانت مفاجأة أعقدت لساني ولسان الدكتور فندي.

صديقتنا التي تستشيرها الحكومة البريطانية في سياسة المنطقة، ويستعين بها أي صحافي أو دارس أو مؤسسات صحافية قالت: إنها لا تعلم شيئا عن التنظيم السري ولم تكن تعرف بوجوده أصلا... وعندما أخبرناها أن والد وعم أحد هؤلاء الأكاديميين قضيا عقوبة السجن لاشتراكهما في اغتيال القاضي الخازندار أمام أسرته قالت بسذاجة «لكنهما تجار أدوات منزلية» وكأن العمل بالتجارة أو أي مهنة أخرى دليل لبراءة عشرات من الإرهابيين في قتلهم للناس (منفذو إرهاب 11 سبتمبر معظمهم مهندسون وخريجو جامعات وأصحاب مهن محترمة).

ولم تكن الدكتورة الأكاديمية تعلم بأن الإخوان اغتالوا رئيس وزراء مصر في مطلع الحرب العالمية الثانية لأنه أعلن دخول مصر الحرب ضمن تحالف الإنسانية ضد النازية، أكثر شرور العالم في التاريخ الحديث، بينما تحالف الإخوان مع هتلر وساهموا في المجهود الحربي النازي.

وكانت على اعتقاد بأن أول حظر رسمي لـ«الإخوان» كان في عهد الضباط الأحرار عام 1954 (وهو ما روجته الـ«بي بي سي» في محاولة لتشبيه المشير السيسي بجمال عبد الناصر كشخصية غير محبوبة في بريطانيا وبين الديمقراطيين الغربيين) حتى ذكرت لها رقم وتاريخ القضية في محكمة عابدين عام 1948 بعد أن ربطت أدلة الطب الشرعي والبصمات بين قتلة رئيس الوزراء النقراشي باشا ومكتب المرشد حسن البنا وهو الرئيس المباشر المسؤول عن التنظيم السري.

وعاد الإخوان للنشاط كجمعية خيرية استثنتها المحكمة الإدارية من قرار حل الأحزاب عام 1954. هذه المعلومات موثقة في أرشيف المكتبات والمحاكم والوثائق البريطانية نفسها. هل لأن المسؤولة السابقة عن قسم MENA في المعهد تنتمي للتنظيم الدولي فلم توجه الباحثين نحو هذه الوثائق؟

لا نريد أن نلقي الاتهامات بلا أدلة تقنع قضاة محايدين؛ لكن ما نقصده هنا أن صديقتنا الأكاديمية في مركز مؤثر على صناع القرار والسياسة؛ وجهلها بالأمر تقصير لكنه غير مقصود، وليس ضمن مخطط صهيوني أميركي ضد مصر والعرب (إنها من أكثر المتعاطفين مع الفلسطينيين وتتمتع بعدم ثقة الإسرائيليين)... التي يعتقد فيها العرب وتعقد حولها ندوات الناشطين السياسيين المصريين من مختلف التيارات.

أليس بالأجدر بهم إعادة توجيه هذا النشاط إلى إنشاء خزانة تفكير أو معهد دراسات ومواقع لجمع هذه الوثائق والمعلومات باللغات العالمية الحية وتقديمها إلى مراكز الأبحاث ومعاهد الدراسات الاستراتيجية «كهدية من الدارسين المصريين» لوضعها في مكتباتهم؟

وستكون خبرا صحافيا يساعد على إفهام من لم يفهم...؟