التزوير والتثوير والتدوير والتنوير

TT

مصر رهينة أربع كلمات تعبر عن مراحل سياسية بعينها، هي عنوان هذا المقال: التزوير والتثوير والتدوير والتنوير. مرحلة التزوير التي وصلت إلى قمتها في انتخابات البرلمان 2010 أدت إلى انهيار نظام مبارك، ثم بعدها دخلت مصر حالة التثوير في 25 يناير 2011 من أجل الوصول إلى صيغة حكم جديدة أو نظام جديد. وبدلا من إنشاء نظام جديد دخلت مصر في حالة تدوير النظام القديم؛ شيء أشبه بتدوير بحالة التدوير المعروفة. في المرحلة من يناير 2011 إلى الآن، تمت عملية استقطاب في المجتمع المصري بين من يؤمنون بالثورة على النظام القديم من حيث بنيته وقيمه ورموزه، وجماعات المصالح المتجذرة في المجتمع وفي بيروقراطية الدولة، التي تحاول إعادة إنتاج نفسها من أجل البقاء أو الاحتفاظ بما لها من مكاسب. في هذا المعترك بين التثوير والتدوير، لا مخرج من هذه الحالة إلا بالتنوير، الذي معه سوف يكون الهدف هو مصلحة الوطن لا الأشخاص، وتغيير منظومة قيم مجتمع العائلية اللاأخلاقية إلى قيم مجتمع ديمقراطي حديث. ومعايير الاختيار يجب أن لا تعكس عقلية الثأر أو عقلية الإصرار على البقاء، بل انتقاء ما هو أفضل لمصر. الوصول إلى هذه المرحلة ليس أمرا سهل المنال، بل يحتاج إلى عمل شاق على مستويات متعددة؛ أولها القيم والثقافة وأخلاقيات العمل العام وأي مصر نريد.

المخرج لمصر هو التنوير، ولكن لكي يحدث هذا التنوير لا بد من قطيعة مع رمزيات الكلمات الثلاث التي سبقتها، قطيعة مع ذهنية التزوير، التي لا أقصد بها فقط تزوير الانتخابات في الصناديق، وإنما أقصدها بالمعنى الأوسع من تزوير الوعي إلى تزوير المواقف، أو ما يسميه المصريون بالبضاعة المضروبة؛ التقليد أو الفالصو. ولكن كيف تكون هناك قطيعة انتقائية مع حالة التثوير أو الثورة؟ وهنا لا أقصد القطيعة على إطلاقها، ولا الاستمرار على علاته. قد يتساءل البعض كيف لي أن أدعو إلى تنوير يرفض الثورة التي هي وسيلة الوصول إلى التنوير؟ بكل أسف الثورة أحيانا تفرغ من مضمونها عندما تفقد روحها وتتحول إلى حالة كرنفالية أو احتفالية. كم مرة احتفلنا بثورة 1952 وغنينا لأعياد الثورة وبالنهاية وصلنا إلى هنا؟! ليس في مصر فقط، بل خذ سوريا مثالا (قبل موجة ما يسمى الربيع العربي) حيث هناك جريدة الثورة واتحاد شبيبة الثورة وأغاني الثورة.. وانظر إلى ما آلت إليه الأمور في سوريا الآن. النقطة هي أن الثورة روح وقيم كما يفعل الفرنسيون اليوم مع ثورتهم؛ فرغم كل هذا البعد الزماني ما زالت قيم الإخاء والحرية والمساواة هي القيم الحاكمة للمجتمع الفرنسي. ولكننا في مصر تقريبا وبعد ثلاثة أعوام نسينا لماذا قامت الثورة، وتحولنا إلى شيع وقبائل انتقامية، مطلوب قطيعة مع الثورة كحالة ثأر من القديم.

هنا نقطة فلسفية أوسع وأكبر يجب أن نتحدث عنها، ولكن ليس في مقال من ثمانمائة كلمة، وهي القطيعة والاستمرار في السلوك السياسي المصري. هناك مؤشرات واضحة على جدران المعابد تقول إن الفرعون الجديد يمحو تاريخ من سبقه، واستمر هذا التقليد حتى في الحكام في عصرنا الحديث، كيف تعامل السادات مع عبد الناصر؟ وكيف تعامل مبارك مع السادات وما تبقى من عبد الناصر؟ وكيف نتعامل اليوم مع مبارك؟ أو بالأحرى كيف يتعامل معنا ما تبقى من نظامه؟ الفرق بيننا وبين الغرب في فلسفة العلوم، هو أن الغرب يعتمد على العلم كحالة تراكمية للمعرفة، أي استمرار لا قطيعة، أما نحن فعلى ما يبدو لكي نؤسس لحكم جديد نقوم بقطيعة مع الماضي. هذا السلوك لا يؤدي إلى علم أو معرفة؛ فهو سلوك ثأر لا سلوك تراكم معرفي يهدف للوصول بمصر إلى حالة أفضل.

التدوير هو المعضلة اليوم، إذ يقف حائلا ما بين التثوير والتنوير؛ فتدوير الوجوه القديمة والأجندات القديمة في الثقافة والسياسة والإعلام يمثل صورة واضحة لفشل ما كان مرجوّا من عملية التثوير. إذ ظن بعض المصريين أنه وبمجرد حدوث الثورة ومن منطلق الحياء الاجتماعي وحرصا على مصلحة مصر كان لوجوه النظام القديم أن تختفي، ولكن في مصر اليوم الجميع يشير إلى ظاهرة إعادة إنتاج النظام القديم؛ فكما أراد «الإخوان» أخونة الدولة، يريد البعض اليوم إعادة توطين الدولة. والتوطين هنا ليس من الوطنية، وإنما من الحزب الوطني. وجوه كثيرة جرى انتقاؤها ليس من الصف الأول من نظام مبارك أو من «وش القفص»، وإنما من الصف الثالث أو الرابع، إذ اختار «الإخوان» مدير مكتب وزير الري ليصبح رئيسا للوزراء، واختارت حكومة الببلاوي نائبا لرئيس الوزراء كان نائب وزير في عهد مبارك، وها هي حكومة محلب تختار من الصفوف الخلفية للنظام القديم نفسه، مما يجعل حتى معيار مبارك للاختيار يبدو أفضل من المعايير التي جاءت بعد الثورة. الثورة قامت على النظام القديم ولم تدرك أنها تنتج النسخة السيئة من النظام القديم. أي تدوير بقايا النظام القديم.

في ظل هذا، هل هناك إمكانية للتنوير والانتقال إلى ما بعد التزوير والتثوير والتدوير؟ بكل أسف، هذه الإمكانية محدودة جدا، وذلك لأن حركة التثوير لم تنتقل إلى حالة رشد بعد، بل تدنت إلى مراهقة الثورة على حساب رشد الدولة، وأن حركة التدوير أكثر جرأة وسرعة وممولة بشكل أفضل، والتزوير كثقافة لم يتغير ولم يحدث بيننا وبينه قطيعة بعد.

التنوير لا يأتي هكذا، فالحداثة الأوروبية لم تكن مجرد موضة أو رغبة أوروبية في الحداثة، ولكن كانت للحداثة أسسها الفلسفية، فمثلا في الفيزياء ظهرت نظرية النسبية التي شكلت وعيا أوروبيا جديا، في أن الحقيقة نسبية وليست مطلقة، ومتى ما تغيرت الفيزياء وانتقلنا من نظرية النسبية إلى عالم ميكانيكا الكوانتم، انتقلت أوروبا ومعها أميركا من الحداثة إلى ما بعد الحداثة. مع أينشتاين أيضا ظهرت نظريات فرويد ويونغ في علم النفس، ومعها ظهر أدب اللاوعي في كتابات فوكنر في أميركا، وبروست في فرنسا، وجيمس جويس في آيرلندا. حدث كل هذا في سياق أوسع هو انتقال أوروبا من عالم الإقطاع والزراعة إلى الثورة الصناعية. إذن، التنوير حدث فيما يسمه الماركسيون بنمط إنتاج كامل اجتماعي وثقافي وسياسي وصناعي.. إلخ.

الثورات عندنا لم تستند إلى أسس فلسفية تعلي قيما بعينها كالحرية والإخاء والمساواة. ولم ينتج عالمنا العربي نظرية نسبية ولا نظرية كوانتم ولا تغييرا فلسفيا حقيقيا في نظرتنا إلى أنفسنا والعالم. لذا سيكون التنوير تنوير واجهات، أي طلاء البيت بحداثة الثورة من الخارج، ويبقى البيت إقطاعيا كما بيت أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ. قيم أحمد عبد الجواد كانت تحتاج إلى محتل أجنبي مثل الإنجليز كي يحدث التغيير، ولكن قيمه لوحدها كانت مدعاة للاحتلال لا سببا في مقاومته. طلاء البيت من الخارج لا يعني التغيير، بل يعني تزويرا من نوع جديد. وحتى نناقش الكلمات الأربع بصرامة؛ التزوير والتثوير والتدوير والتنوير، سنظل كما ثور يدور في الساقية نفسها.