غلاسنوست الببلاوي في آخر لحظة!

TT

في عام 1988، أصدر ميخائيل غورباتشوف، رئيس الاتحاد السوفياتي وقتها، كتابه الشهير «البيريسترويكا» الذي صار حديث الإعلام في العالم وقت صدوره، وإلى ما بعد صدوره بسنوات، وقد كانت كل الأسباب تجعل من الكتاب كتاب العام، بل كتاب أعوام لاحقة ممتدة، بدءا من أن مؤلفه كان مستقرا على قمة إحدى القوتين العظميين في أرجاء الأرض، ومرورا بأن المؤلف كان يروي فيه نظرته للإصلاح الذي يراه في بلده، وربما في خارجه، في مواجهة مشاكل وأزمات كبرى تراكمت عاما بعد عام!

والكتاب لم يكن كتابا بالمعنى المفهوم للكلمة، ولكنه كان كتيبا، إذا شئنا الدقة في وصفه، من حيث حجم أو عدد صفحاته التي لم تكن تتجاوز الخمسين صفحة من القطع الصغير.

وفي يونيو (حزيران) من العام نفسه، صدرت ترجمة للكتيب في القاهرة، عن «دار الشروق»، مع تقديم لها، وتحليل للنص، بقلم الدكتور حازم الببلاوي، الاقتصادي المعروف، وقت صدور الترجمة، ثم وزير المالية في ما بعد، وأخيرا رئيس الوزراء إلى أيام قليلة مضت.

وعندما تحسب المسافة الزمنية بين صدور الكتيب، وبين تولي الدكتور الببلاوي رئاسة الحكومة المصرية، فور قيام ثورة 30 يونيو 2013 على الإخوان، تكتشف أنها 25 سنة بالتمام والكمال.

ولو أتيح لك أن تقرأ تقديم الرجل، أو تحليله، فسوف ترى إلى أي حد كان متحمسا للغاية لأفكار غورباتشوف، وخصوصا الكلمتين اللتين أشاعهما قبل صدور الكتيب، في لغات شعوب كثيرة، من شعوب العالم، وهما: البيريسترويكا، والغلاسنوست!

وقد جاء وقت كانت كل كلمة فيهما على كل لسان، ولم يكن هناك شخص عربي يكتب عما يتمناه من إصلاح في بلده، إلا ويبدأ حديثه بإحداهما، وينهيه بالأخرى! وكانت الكلمة الأولى تعني إعادة البناء، وكانت الثانية تعني المصارحة.

وبطبيعة الحال، فإن صاحبهما كان قد تبناهما وقت أن كان في قمة السلطة في موسكو، وكان منتهى أمله، وهو يستحدثهما في كلامه، ثم في الكتيب إياه، أن يعيد إصلاح، أو بناء، ما فسد في اتحاده السوفياتي الذي لم تكد تمر شهور على صدور الكتيب، حتى انهار الاتحاد، وتوزع ميراثه بين أكثر من دولة، أبرزها روسيا الاتحادية بزعامة بوتين في وقتنا الحالي.

ما يهمنا في الموضوع، أن الببلاوي وهو يتناول الكتيب، قبل توليه رئاسة الوزارة بربع قرن، كان يتساءل بجد، عما إذا كانت محاولات التغيير التي يقوم بها غورباتشوف في بلاده سوف تنجح، أم أنها سوف تضاف إلى محاولات أخرى سابقة عليها.

ورغم أنه ترك الإجابة عن تساؤله للزمن، على حد تعبيره يومها، فإنه أقر، وهو ينهي تعليقه على صفحات الكتيب، بأنه إذا كان هناك فضل سوف نحسبه للرئيس السوفياتي أيامها، فهذا الفضل هو أنه قد أدخل الكلمتين الشهيرتين، في أكثر من لغة، وأشاعهما في أكثر من ثقافة، ربما كما لم يحدث لكلمتين مثلهما من قبل.

وأذكر أن آخر عبارة خطها الببلاوي، في كلامه عن الكتيب، وعن صاحبه، وعن أفكاره، وعن كلمتيه، أنه قال: ما أحوجنا إلى بيريسترويكا عربية!

ومنذ أن صار الرجل رئيسا لحكومة الثورة في مصر، في أول يوليو (تموز) 2013، إلى أن استقال من رئاستها في 24 فبراير (شباط) 2014، كنت أراقب من جانبي، ويجوز أن غيري أيضا كان يراقب، بل يترقب، ما إذا كان حين صارت الأمور إليه، سوف يستطيع تطبيق البيريسترويكا العربية التي نادى بها، قبل 25 سنة، أم أن الكلام عنها، بوصفها عملية إعادة بناء متكاملة، شيء، بينما وضعها موضع التنفيذ شيء آخر تماما.

والصحيح، أنك لكي تحكم على الشخص، أي شخص، بشكل موضوعي، وعادل، فلا بد أن تضع نفسك في مكانه، كاملا، وبما أن أحدا منا، لم يجرب ذلك، أي لم يصبح رئيسا للحكومة المصرية، في مكان الببلاوي، ولو لساعات، أو لأيام، فإن الحكم على مدى قدرته على العمل بما كان قد نادى به، يظل حكما نظريا، إذا جاز التعبير، ونظل ونحن نحكم على تجربته نتكلم عما لم نجربه، ولم نختبره. ولكن الثابت، بالنسبة لي على الأقل، أن الببلاوي كان قادرا على أن يعمل بأفكاره، أو بمعنى آخر، كان قادرا على أن يختبر الكلمتين إياهما، في منصبه، لو كان قد بدأ بالثانية، قبل الأولى، أي على عكس ما جرى بالضبط. كيف؟!.. ففي يوم 18 فبراير، أي قبل استقالته بأسبوع، كان قد عقد اجتماعا مع رؤساء تحرير الصحف المصرية، وكان قد مارس في حضورهم عملية الغلاسنوست، للمرة الأولى، منذ أن أصبح على رأس الحكومة.

يومها، قال لهم، إن دعم الطاقة في البلد وصل إلى 128 مليار جنيه مصري سنويا، أي 20 مليار دولار تقريبا، وهو وضع يستحيل أن يدوم، ليس لأن الحكومة لا تريد أن تدعم فقراءها، ولكن لأنه في أغلبه يذهب، بكل أسف، إلى الذين لا حق لهم فيه!.. ولذلك، قال هو، إن مواجهة وضع كهذا، من جانب الحكومة، ومن جانب الشعب معها، لا بد أن تتم برجولة.. وقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها رئيس حكومة مصري كلمة «رجولة» ويصفها بأنها مطلوبة من طرفي الدعم، الحكومة والشعب، لمواجهة إهداره المستمر!

كلمة كهذه، تندرج بكاملها تحت الغلاسنوست الغورباتشوفي، بامتياز، لولا أنها جاءت في وقت ضائع، لأن توقيتها الطبيعي كان في أول يوم له في رئاسة الحكومة، لا قبل رحيله بأسبوع بالكاد، ولو جاءت في توقيتها، لكان هو قد أعاد البناء فوقها، ولكان الأمر قد انطوى عندئذ على اتساق، وعلى منطق، غير أن هذا هو ما جرى!