الأوبئة: حروب عالمية بلا دخان

TT

وزائرتي كأن بها حياء

فليس تزور إلا في الظلام

بذلتُ لها المطارف والحشايا

فعافتها وباتت في عظامي

هل كان المتنبي مريضا بالملاريا التي تنخر العظام؟ ومن أين جاءته البعوضة الإفريقية؟! ربما «كشَّها» نحوه حاكم مصر كافور الإخشيدي. أحب المتنبي سيف الدولة واحترمه. وهجا الإخشيدي. وغادره في العيد، فارًا منه. وناقما عليه.

«عيد بأية حالٍ عدت يا عيد؟». هل كان المتنبي مصابا بإنفلونزا الطيور؟ «أبنتَ الدهر عندي كل بنت/ فكيف وصلت أنتِ من الزحام؟!». كان المتنبي نحيفا. دقيق الجسد. ولم يكن اجتماعيا. كان كارها للناس والحساد. وكانوا هم أيضا كارهين له. لم يمت المتنبي بإنفلونزا الخنازير. قتلت العشيرة شاعر العرب الأكبر في صحراء الأنبار العراقية، حيث ما زالت القبيلة تقتتل مع الطائفة.

عولمت الحروب الأوبئة والأمراض. سارت الإنفلونزا في مواكب الغالبين والمغلوبين. قتلت «الإنفلونزا الإسبانية» بعد الحرب العالمية الأولى (1919) خمسين مليون إنسان. رسم الوزيران البريطاني والفرنسي (سايكس وبيكو) خريطة المشرق العربي. فعاقبهما القدر المرسوم. فقد توفيا بهذه الإنفلونزا الخبيثة.

الصحة الوقائية حسَّنت فرص البقاء. بات الناس يعيشون عمرا أطول. وبحكمة أقل. يقتتل الأغنياء مع الأغنياء. يتصالحون. فيقتلون الفقراء. دمر حافظ الأسد مدينة حماه فوق أهلها. ودمر ابنه بشار مدن سوريا فوق أطفالها. لم يساوره الندم، وهو يرى ملاعق الذهب تدخل وتخرج من أفواه أبنائه الثلاثة.

خرج أطفال سوريا من تحت الأنقاض. ليواجهوا البؤس. والبرد. والمرض: ملايين النازحين في الأكواخ. وتحت الخيام. أطفال معرضون للشلل. وأمهات لا يستطعن إرضاعهم. فهن يعانين مع أطفالهن من أمراض سوء التغذية.

يتعاطف العالم. يتبرع. تنظم المنظمات الدولية فرق الغذاء. فيعيقها النظام والمقاتلون. يحن العرب للعرب. في دول الخليج، حملات رسمية وشعبية للتبرع. نظم الأمير محمد بن نايف وزير الداخلية المشرف على الإغاثة السعودية، يوما للتضامن مع أطفال سوريا والتبرع لهم.

ليس بالحرب وحدها يموت الإنسان. السلم مميت أيضا! العالم موبوء بأمراض البيئة والحضارة. الأنهار ملوثة بالنفايات الصناعية والكيماوية. سخونة الجو تذيب الثلوج. فترتفع مياه البحر. وتندر مياه البر. مع نهاية الغذاء الرخيص. يتراجع الإنتاج. بات سعر القمح. والذرة. واللحم. والفواكه. والخضر، أغلى. فتنشب النزاعات والحروب النظامية والأهلية. لا مفر من هذا الكوكب الشقي. الكواكب الأخرى بعيدة عنا. ولا نعرف ما إذا كانت مأهولة. ولا نعلم ما إذا كان ساكنوها مسالمين أم معادين.

لم تعد الإنفلونزا دغدغة مَرَضية. سهلة. الازدحام دعا الإنسان للتعايش مع الحيوان. هذا التعايش السلمي ولد أمراضا وأوبئة جديدة! جنون البقر يدمر نسيج الدماغ. المصابون بإنفلونزا سارز. كورونا. أفيان... يموت نصفهم بالتهابات الرئة. ويحمل الناجون المرض إلى أصحاء آخرين.

والإنفلونزا أمراض رشيقة تنتقل بالعدوى: مصافحة صديق. قبلة عاشق. سعال. بصاق. عطاس. رذاذ الأنوف والأفواه في زحام الباصات. والطائرات. والمترو، ينقل اليوم أنواعا خبيثة من الإنفلونزا الفتاكة التي تنهك الجسد. ثم تستقر في الرئتين. الأوبئة الجديدة تتناقلها بيئة ملوثة بأشعة المفاعلات النووية المتهالكة. مات مليون أوروبي بأشعة مفاعل تشيرنوبل. لا أحد يعرف كم من الناس سيموت بأشعة مفاعل فوكوشيما. أو بإشعاعات المفاعلات الإسرائيلية والإيرانية.

النظافة من الإيمان. الصلاة الإسلامية مساعدة على الطهارة بالوضوء. غسل اليدين ضرورة محتمة قبل تناول الطعام. 15 بالمائة فقط من أطباء المشافي و«غرسونات المقاهي» يغسلون أياديهم.

النظافة أيضا تاريخ. تقدمُ الحضارة ليس دليلا على النظافة. القرون الوسطى غصت بأوبئة الطاعون التي كادت تفني إنسان أوروبا. وتُبقي على جرذانها. ملكة إنجلترا إليزابيث الأولى (غير إليزابيث الحالية) كانت تفاخر بأنها لا تغتسل سوى مرة واحدة بالشهر. اغتسل لويس الرابع عشر مرتين فقط في حياته. لكن كان يغيِّر قميصه ثلاث مرات في اليوم.

اكتشاف الجراثيم والميكروبات أدخل تغييرا على تقنية النظافة. يأكل الناس بالملعقة والشوكة اليوم. لكن ما زالت المستشفيات بؤرة للعدوى في العالم «النامي». تلحق بها الطائرات. القطارات. مترو الأنفاق. الباصات. الهواتف. مقابض الكراسي. ظل حافظ الأسد ثلاثين سنة ممسكا بقبضتيه كرسي الحكم. فنقلت إليه الجراثيم ستة أمراض مستعصية: سرطان البروستات. السكر. الحساسية. هشاشة العظام... وأخيرا وهن ملكاته العقلية. فتوفي قبل أن يتحول الوهن إلى العته المخرف (الزهايمر).

يموت مثقفو المقاهي بقذارة النادل. ويعيش مثقفو النخبة عمرا أطول. القراءة والثقافة ربما تحميان قدرة الدماغ على التفكير بلا تكفير. مات مصطفى أمين الذي لم يقرأ سوى الصحف. وعاش الصحافي المثقف محمد حسنين هيكل. ما زال محتفظا بقواه العقلية في التسعين من العمر. وهو مرشح مع عمرو موسى (80 سنة) لعضوية «لجنة حكماء» لوضع برنامج ديمقراطي للمرشح المتوقع فوزه المشير السيسي.

السمنة والتخمة مرضان يحتكرهما الأغنياء. حبس شارون عرفات في رام الله. فمات شارون مغمى عليه ثماني سنوات. فقد استنزفت التخمة والسمنة دماغه. ظل الدكتور حسني سَبَحْ ينصح ساسة النخبة بعدم تناول الكبة (برغل محشو بالدهن والسمن). فعاش أكثر من تسعين سنة. وماتوا هم في سبعينات وستينات الشيخوخة منفوخي البطون والأوداج، باستثناء سعد الله الجابري رجل الدولة. فقد مات بسرطان الكبد، أنيقا في سن الكهولة. من دون أن يدخن. أو يشرب.

الرئة جهاز نبيل. دقيق. رقيق. ليِّن. مرن. صالح لإيواء الإنفلونزا الفتاكة التي تقتل، بصمت عالمي عجيب، مئات ألوف المتقدمين في العمر. فتحتل الآلة الإلكترونية مكانهم تاركة ملايين الشباب أسرى مَرَض البطالة.

الانحناء مُزْرٍ بكرامة الناس. فيصابون بتقوُّس وضمور العمود الفقري أمام الطغاة. المشي مفيد. فهو يريح الفقرات. التدخين. والكحول. وإدمان المخدرات والمنبهات يصيب زبائن «الكنبة» أمام التلفزيون، بأمراض الخمول، كالسرطانات. والقلب. والأوعية الدموية. ازدهرت الأمراض الجنسية، منذ سنوات الحرية الجنسية في الستينات. هي أمراض تحت الحزام. ولا علاقة لها بأمراض الحزام الانتحاري الناسف.

لا تَنْسَ، يا بنيَّ، أن هناك هرمونا للحب يفرزه الدماغ من القاع. لكن حذارِ. فهو يغري بالحب من أول نظرة. هرمون أوكسيتومين يشيع العطف والحنان. إذا قلَّ تحول الزواج إلى لعنة. إذا كثر أصيبت الأقليات. وزعران الرياضة. والطائفية، بالعصبية العمياء المدمرة للشعوب والمجتمعات.

الزواج هو المؤسسة الشرعية المقبولة اجتماعيا. لكن الزواج كالعزوبة. أيهما فعلت ندمت عليه. لا تحملق، يا سيدي، بعارضات الأزياء. النحافة الشديدة مرض يصيب الهياكل العظمية المتحركة. لا تصدِّق مصممي الأزياء الذين يقدمون العارضة المريضة، بمشية القطة المدللة.

السمنة مرض التخمة. وأنا حزين عندما أشاهد المرأة العربية في شوارع باريس. فقد باتت كتلة إسمنتية محاطة بكتيبة رشيقة من الأطفال والخادمات الأسيويات. الحجاب مفيد. فهو أفضل من الكمَّامة، في الوقاية من الإنفلونزا. لكن السمنة تسابق التخمة، في ملء العباءة الفضفاضة.

لا تضيِّع وقتك في عروض الأزياء. اذهب إلى عروض الرياضة. فالرياضة هواية جميلة. لكن الرياضيين المحترفين يصابون غالبا في الشيخوخة، بالعته (الزهايمر) فهم يستخدمون أقدامهم أكثر من عقولهم. لعبت كرة القدم وأنا تلميذ في المدرسة الثانوية. كنت تقدميا. رفضت شراء حذاء الرياضة ذي المسامير المؤذية. قذفت الكرة بقوة. فأخطأت الهدف. طارت فردة حذائي اليسرى. فاستقرت في شبكة المرمى. طردت من عالم الرياضة شر طردة. وأنا سعيد اليوم. فقد أنقذتني الصحافة، من الإصابة بعته الرياضة.