تنافس الأزمات!

TT

قد تكون مجرد مصادفة أن يكون العالم يموج بكل هذه التغييرات، حيث تبدو خرائط قابلة لإعادة الرسم من جديد وكيانات على وشك التفكك، في العام الذي يصادف مرور مائة سنة على الحرب العالمية الأولى التي رسمت فيها الكثير من حدود وخرائط العالم بما فيها منطقة الشرق الأوسط، وانهارت فيها إمبراطوريات أوروبية كانت حدودها ومناطق سيطرتها تتقاطع مع كيانات جغرافية تبدو تحت تهديد التفكك حاليا، مثل أوكرانيا.

في 2011 وسط إعصار التغييرات التي ضربت عدة دول عربية واحدة بعد الأخرى متأثرة ببعضها، كانت هناك حالة لهاث دولية وإقليمية في متابعة الأزمات التي لم يتوقعها أحد بهذا الشكل، وكانت تتنافس يوميا مع بعضها في تصدر أولوية الأجندات والاهتمامات، والآن في 2014 لا يستطيع أحد أن يجادل في أن أوكرانيا دخلت بقوة على ساحة المنافسة في قوس الأزمات لتصبح هي التي تتصدر الأجندة العالمية، ويتراجع الشرق الأوسط وهو لا يزال ملتهبا خاصة في سوريا، إلى الدرجة الثانية في الاهتمامات.

كثيرون في المنطقة يراقبون التطورات المتصاعدة على مدار الساعة بين روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ويعقدون المقارنات بين المواقف هنا وهناك، خاصة أن نفس الأطراف المتواجهة حاليا متداخلة كلاعبين دوليين في أزمات في المنطقة مثل الحرب في سوريا، وهو ما سينعكس بشكل أو بآخر على المواقف أو حتى على التنسيق من أجل استئناف مفاوضات مؤتمر «جنيف 2».

وتعيد الأزمة الأوكرانية العالم بشكل متسارع إلى أجواء تشبه عالم الحرب الباردة قبل انهيار جدار برلين، والذي امتد في تأثيره ليشمل دولا أوروبية شرقية كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي السابق قبل تفككه ووراثة روسيا له. وأحيانا تعكس سخونة التصريحات الصادرة من العواصم أجواء تدعو للقلق من عودة حالة الاستقطاب الشديدة التي كانت سائدة بين الشرق والغرب واستمرت عقودا حتى التسعينات، وكانت الدول الصغيرة فيها مجرد قطع شطرنج على رقعة اللعب بين القوتين العظميين وقتها، وكانت الأزمات مجرد أدوات لاستنزاف الطرف الآخر، بينما الخط الأحمر غير المسموح بتجاوزه هو حدوث مواجهة مباشرة بينهما. وقتها كسب الغرب الجولة بتقديم النموذج الاقتصادي والسياسي الأكثر حيوية وثراء مما دفع الدول التي كانت في إطار حلف وارسو إلى التطلع باتجاهه، وهو نفس وضع الأمر حاليا بالنسبة إلى قطاع من الأوكرانيين الذين ينظرون إلى أوروبا، بينما يرتبط جزء بروسيا.

وكالعادة، فإن أسرع ما يعكس علامات القلق من تطورات الأزمة هي الأسواق المالية التي شهدت خسائر بالأسهم في أوروبا وآسيا، وارتفاع أسعار النفط والذهب، لكن يصعب تصور أن تعود أجواء الخمسينات والستينات والسبعينات مجددا، إلا لو كان اللامنطق هو الذي يسيطر على العقول.

ويبدو أن السيناريو الأقرب للتصور أو المنطق، هو أنه ستكون هناك نقطة معينة قبل الوصول إلى الهاوية، تتراجع عندها الأطراف المشتبكة حاليا، والتي تقيس بدقة كل خطوة تخطوها خوفا من خطأ في الحركة ثمنه قد يكون مرتفعا، خاصة مع حالة التشابك التي حدثت في المصالح على مدار أكثر من عقدين. وجزء من هذه المصالح تجارة سنوية بـ400 مليار دولار بين روسيا والاتحاد الأوروبي، بخلاف ترتيبات الطاقة والغاز، لكن الأهم هو أن هناك ترتيبات وعالما جديدا نشأ بعد نهاية الحرب الباردة للنظام الدولي، وسيكون مؤسفا هدمها، كما أن تداعياتها على الأمن والسلم الدوليين ستكون كبيرة.