«أبطال» البنك الأهلي التجاري

TT

صرح وزير المالية السعودي إبراهيم العساف أن الدولة ستبيع 25 في المائة من رأس مال البنك الأهلي التجاري الذي تعود ملكيته إلى صندوق الاستثمارات العامة، على أن يكون البيع على مرحلتين.. المرحلة الأولى ستكون بطرح نسبة 15 في المائة، وهي التي ستخصص للاكتتاب العام، والمرحلة الثانية ستكون بـ10 في المائة ستوجه لصالح المؤسسة العامة للتقاعد (وهي نسبة مساوية لما تملكه المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية في البنك نفسه). وهذا الإعلان الذي كان متوقعا، من شأنه أن ينعش سوق الأسهم السعودية بشكل مدهش، حيث إنه سيؤدي إلى تعميق السوق وجذب سيولة جديدة إليها.

البنك الأهلي التجاري هو باختصار قصة نجاح استثنائية وكأنها مرآة للحياة نفسها، فاليوم والناس يستعدون لاستقبال أسهم البنك الأهلي في احتفالية كبرى، قد يكون من المفيد التذكير برحلة العَرق والكد والقمم والقيعان والمنحنيات بينهما حتى وصلت إلى المشهد الحالي، وبرجال كانوا نجوما في هذه المسيرة المهمة التي تحكي قصة أهم البنوك السعودية وأكبرها وأحد أهم بنوك الشرق الأوسط. إنها رحلة جميلة بدأها رجل عصامي بسيط اسمه سالم بن محفوظ، أسس مصرفا تجاريا كان هدفه الأساس خدمة التجار، وأصبح مع الوقت مقصدهم الأول، وساعد في مساندة المئات من الشركات والمؤسسات والأفكار بفعالية وجدارة، وجاء من بعده ابنه خالد الذي كان جريئا ومغامرا وصاحب رؤية سابقة لوقته، وكبر البنك معه ونما، ولكن مع النمو الهائل كان لا بد أن تأتي العثرات والمشاكل، وجاء وقتها شقيقه الأكبر محمد ليقود البنك في مهمة صعبة كان مطلوبا فيها بناء الثقة وإعادة الطمأنينة، وهو ما تم بجدارة.

والبنك الأهلي فرّخ قيادات رائدة في مجال العمل المصرفي السعودي، سجلت أسماءها في تاريخ «الصنعة» بجدارة، فلا يمكن أن يروى تاريخ البنك من دون الإشادة بأسماء مثل عمر باجمال القيادي المصرفي المحنك، وعبد الله باحمدان «حكيم» البنوك السعودية وأحد أهم المصرفيين في تاريخها والربّان الماهر الذي قاد البنك إلى بر الأمان وسط أمواج متلاطمة، وعبد الهادي شايف المدير المحنك والتقني المحترف، وعبد الكريم أبو النصر العقلاني المتمرس والواجهة المشرفة، وعبد الرزاق الخريجي الذي كان وراء ديناميكية الصيرفة الإسلامية بشكل مدروس ومؤسسي. هذه الأسماء ما هي إلا نماذج باهرة لقيادات مهنية «نظفت» مشاكل البنك في الداخل وفي الخارج وتعاملت مع أعتى وأدق وأهم التحديات سواء في جوانبها المالية أو المحاسبية أو القانونية، وخاضت معارك كانت هي فيها في بعض الأحيان طرفا مظلوما ودافعت بالبراهين والأدلة والوثائق حتى نظفت سجلات الادعاءات والافتراءات وأعادت هيكلة الديون بشكل سوي ونظامي، وكذلك فعلت في ما يخص ملكية أسهمها الخاصة بالبنك وإعادة هيكلة القطاعات والإدارات والأقسام. كان للبنك خلال تلك الفترة العديد من الحراك الريادي في المنتجات والأفكار، فهو أول من قدم الصناديق الاستثمارية المتخصصة للسوق السعودية، وكذلك هو أول من قدم التمويل المتخصص لشراء السيارات بالتعاون مع وكالات السيارات، وكذلك بالنسبة للتمويل العقاري، وكان أول من أقدم على برنامج مميز في المسؤولية الاجتماعية بقطاع المصارف السعودية، وأطلق الصيرفة الإسلامية لأول مرة من خلال بنك رسمي بشكل مؤسساتي ومدروس بعيدا عن العشوائية والارتجال. البنوك الناجحة والمميزة تدخل فورا في ذاكرة التاريخ للأوطان كجزء من مكونات صناعتها، فأميركا لا يذكر اقتصادها من دون ذكر بنك جي. بي مورغان، وبريطانيا لا يذكر تاريخها الاقتصادي من دون الإشادة ببنك لويدز، وذات الأمر بالنسبة للألمان فهم يتغنون ببنك دويتشه، وهناك بنك مصر في مصر، والبنك العربي في الأردن وفلسطين، وبنك الكويت الوطني في الكويت، وبنك لبنان والمهجر في لبنان.. هذه البنوك تحولت مع الوقت إلى رموز وأيقونات مهمة جدا ومصدر فخر للاقتصاد الوطني في بلادها، وكذلك الأمر بالنسبة للبنك الأهلي التجاري الذي في رمزية اسمه معنى بليغ، فهو «أهلي»، أي أنه اعتمد على القطاع الخاص في نشأته، و«تجاري» أي أنه اعتمد على الفكر التجاري المتعاون مع القطاع المنشود.

واليوم ها هي القصة تأخذ منعطفا تاريخيا في روايتها ويصبح البنك في جزء منه ملكا للناس، وكان لا بد من رواية سطور مهمة بحق أبطال هذه القصة، وطبعا هناك العشرات من الأسماء الأخرى لا تسعفها كلمات هذا المقال ومساحته، وكل الأمل أن يكون من نصيب هذا الصرح إدارة محنكة لها القدرة على الجرأة والإبداع والتألق، وأن تكون هناك روح المبادرة التي تليق بأكبر بنك في أكبر اقتصاد بالشرق الأوسط بدلا من حصر كل الطموح في فكر توظيفي تقليدي ضيق.

مبارك للسعودية وللبنك الأهلي التجاري هذا الحدث الكبير، وهناك صفحات جديدة سيبدأ التاريخ في كتابتها.